مسلسلاتٌ كرتونية من التسعينيات نساها الجميع


أجبرتني حالة الملل الدوريَّة التي أمرّ بها من الإنتاجات الحديثة، قبل بضعة أسابيع، على العودة مرَّة أخرى إلى مشاهدة مسلسلٍ من أيام “طفولتي” المتأخّرة، وهو سلاحف النينجا الذي كنتُ معتاداً على مابعته من خلال قناة MBC3 مع إخوتي. وأنا سعيدٌ جداً لكوني قمتُ بذلك، فقد اكتشفتُ أنه مسلسل ممتازٌ جداً: فهو يُقدِّم مزيجاً معقولاً بين الحس الكوميدي والأحداث الجادة، كما أنَّ رسومياته وتحريكه جيدان جداً بالنسبة لإنتاجٍ صادر في عام 2003، وأما أكثرُ ما جذبني إليه فهو الإبداع الشديد بالشخصيات والعوالم الخيالية التي يُصوِّرها، ففي كلِّ حلقةٍ تقريباً تظهرُ شخصيات جديدة غريبة ومُصمَّمة بإتقانٍ بالغ.

لكنَّ الأمرَ الأهمَّ هنا  بالطبع، هو هذه التجربة الناجحة دفعتني إلى البدء بتصفّح العديد من المسلسلات القديمة. في الأصل كنت أنوي أن أقصر جميع المسلسلات الواردة في هذه التدوينة على الإنتاجات الأمريكية، ليس لسببٍ إلا لكي لا يقتلني الأوتاكوز لعدم ذكر كلمة “الأنمي” في العنوان، لكني لم أستطع مقاومة تضمين بعض الأنيميات اليابانية الممتازة أيضاً، لذلك أرجو التسامح معي في العنوان والتركيز على محتوى التدوينة.

كابتن سيميان

اسمه الأصلي Captain Simian and the Space Monkeys، وهو مسلسل قصير من إنتاج عام 1997، يتألف من ست وعشرين حلقة، وقد دبلجته سبيستون منذ فترة مبكرة نسبياً، ولكن لم تتم إعادة عرضه كثيراً بعدها (كنا نحاول تصيّده لسنواتٍ على قنوات التلفاز دون نتيجة). تتمحور قصة البطل حول قرد شمبانزي يدعى “الكابتن تشارلي سيميان” أرسله البشر إلى الفضاء في ستينيات القرن العشرين، واستمرَّ مكوكه بالتبحّر بعيداً حتى وصل إلى كوكبٍ تسكنه حضارة متطوّرة جداً (ليس لها اسم.. لأنها متطوّرة أكثر بكثيرٍ من أن يمكن نطق اسمها أو كتابته بأيّ لغة بشرية!)، حيث منحته تلك الحضارة عتاداً وأسلحةً فائقة التطوّر ليتمكن من مكافحة عدو شريرٍ هو عبارةٌ عن ثقب أسود.

أجنحة الكاندام

قد أُخصِّص تدوينة منفردة لهذا المسلسل في أحد الأيام، لأنه من أفضل الأنيميات التي شاهدتها في حياتي. صدر أجنحة الكاندام (بالإنكليزية: Mobile Suit Gundam Wing) في عام 1995، ولم يكن سوى الموسم السادس في مجموعةٍ طويلة جداً من سلاسل “الكاندام” التي لا زالت تصدرُ منذ نهاية السبعينيات وحتى هذه اللحظة. لم أشاهد أي أنمي من مجموعة الكاندام سوى هذا الجزء، الذي تابعته كاملاً مرتين أو ثلاثة أو أربعة على سبيستون وعدة مرات على حاسوبي (آخرها قبل شهور)، ورغم أنَّه طفولي جداً ومليءٌ بالمشاهد السخيفة، لكني لا زلت أقدِّره للغاية.

أكثرُ ما يُميّز أجنحة الكاندام أن له قصة مُعقّدة تدخلُ فيها عدة أطرافٍ في صراع مستميت: فليس هناك جانبان للخير والشر فحسب، بل ثمة الكثير من الأحلاف والجبهات الجانبية التي تتدخل في المعركة بحسب مصالحها ودوافعها الخاصة. ينتقل الصراع على مرّ المسلسل ما بين الأرض، والقرى الفضائية (مستعمراتٌ بناها اللاجئون البشر في الفضاء الخارجي)، وعودةً إلى الأرض، ومن ثمَّ عودةً إلى قرى الفضاء. كمية الإثارة والأحداث غير المتوقعة ممتازةٌ مقارنة بما عهدتّه من الأنمي، خصوصاً المُوجَّه للفئات الطفولية.

السيف القاطع

صدر هذا المسلسل القصير، المكوّن من 26 حلقة، في سنة 1998 ودبلج إلى اللغة العربية على قناة سبيستون بعدها بأربع سنوات، وأعيد بثّه عدة مرات في السنوات التالية. لو كنتُ سأعدّد سمات النسخة العربية من هذا المسلسل فسأقول أنَّه كان يتميَّز بشارة بداية بديعة تجبرك على ترديد أنغامها في رأسك طوال اليوم، وبكمية مذهلة من المقاطع المحذوفة والمُعدَّلة (أهلاً بك مع إنتاجات مركز الزهرة) أفسدت تجربة مشاهدته بنسبةٍ عملاقة. عدَّلت الدبلجة أسماء الشخصيات إلى فريد، البطل، وغزالة، صديقته ذات المهارات القتالية الفائقة، وكندة، وهي آلية على شكل إنسانة، حيث يسافر هؤلاء الثلاثة على سفينة فضاء ذات قوى خاصَّة – ورثها فريد عن جدَّته – لمطاردة مجرمي الفضاء وتخليص الكون من الشرور (قصة غير تقليدية أبداً).

أكيرا – المقاتل النبيل

اقتبس هذا المسلسل (Virtura Fighter) بالأساس من سلسلة ألعاب فيديو أنتجها استوديو سيغا الياباني، ومن ثمَّ حُوِّل إلى أنمي من 35 حلقة صدر في سنة 1996. دبلج إلى العربيّة على سبيستون باسم “أكيرا المقاتل النبيل” منذ مدة طويلة، لكن لا أظن أن بثه أعيد كثيراً. البطل هو مقاتل صينيٌّ محترفٌ بفنّ الباجيتشوان (شيءٌ مثل الكاراتي والنينجا وما إلى ذلك)، واسمه – كما يمكن أن تتوقع – هو أكيرا، وكما قد تتوقَّعُ أيضاُ فإنَّ غايته تخليص العالم من الشرور. يتميَّز المسلسل برسوميات وتحريكٍ جيِّدين جداً بالنسبة إلى فترته، وتطور قصته غير سيّء، بالإضافة إلى أن دبلجته العربية ممتازة.

داي الشّجاع

لا أعتقدُ أن ثمة الكثير من أبناء جيل التسعينات الذين لم يشاهدوا هذا الأنمي، وعلى الأغلب أنه لم يكن الكثير منهم أيضاً ممَّن لم ينتظروه بفارغ الصبر حلقةً بعد الأخرى ليعرفوا مصير الفتى داي. أعدتُ مشاهدته عدة مرات، إلا أنَّني أصبتُ دوماً بالإحباط بسبب قصَّته غير المكتملة، حيث لم يُغطّي الأنمي أكثر من قسمٍ ضئيلٍ من فصول المانغا الثلاثمائة والخمسين. المسلسل مقتبسٌ بالأصل عن لعبة فيديو مشهورة في اليابان، وهو طفوليّ جداً، ولا أعتقدُ أنَّك سترغبُ بمشاهدته الآن فعلاً سوى للذكريات. في الأساس، القصة تتمحورُ حول داي الذي يحاول القضاء على زعيم الأشرار “بؤرة الشرّ” وأتباعه المنقسمين إلى خمس مجموعات من الوحوش والمخلوقات الغريبة الشريرة. صدر الأنمي في عام 1991، وهو يتألف من 46 حلقة دبلجها مركز الزهرة جميعاً إلى العربية.

فرسان الأرض

صدر هذا الأنمي ذو الست وعشرين حلقة في سنة 1999، ودبلجته سبيستون خلال عدَّة سنوات من تاريخ صدوره، ومرَّة أخرى، تتميز الدبلجة بشارة بداية رائعة، وبتغيير أسماء جميع الشخصيات للعربية (وسيم، أشقر، روان). يعني اسم المسلسل الياباني “أسطورة السيوف المُقدَّسة الثمانية”، إذ إن القصة الأساسية تدورُ في المستقبل في زمنٍ تدمَّرت فيه الأرض وهاجرَ البشر إلى ثمانية أقمارٍ في الفضاء، حيث تكون لكلّ واحدٍ من هذه الأقمار جوهرة سحرية تمنحُ قوى خارقة يحملها واحدٌ من الأبطال الثمانية.

يخوض الأبطال حرباً ضد الزعيم الشرير سوريس، الذي يحاول احتلال الأقمار الثمانية وحكمها ببطشه. أذكر حتى الآن اليوم المأساوي الذي شاهدتُ فيه الحلقة الأخيرة، حيث كنتُ مكتئباً جداً بعد أن مات جميع الأبطال واحداً تلو الآخر في الحرب ضد الشرير سوريس أو “الأصفر”، ما عدا الفتى ذي الشعر الأحمر (وسيم) الذي يكون الناجي الأخير والوحيد من المعركة الدامية.

بظ يطير

لا أتحدّث هنا عن فلم Toy Story، بل عن مسلسل كرتونيّ أصدرته ديزني بشكل مستقلّ في عام 2000 (أعلم، ليس من الضروري أن يكون التسعينيات تماماً)، وإذا لم يسبق لك وأن شاهدتَه على قناة MBC 3، فأنا أعتذرُ لك مقدماً لأن طفولتك حرمت من متعةٍ عظيمة. هو محضُ مسلسل كرتوني هزلي بسيط، كلُّ حلقة تكون لها قصة قائمة بذاتها، وتتابع مغامرات بظ يطير مع فريقٍ من رواد الفضاء العاملين لدى “قيادة الكوكب”، والذين يهدفون إلى حماية المجرة من مخططات العدوّ الشرير “زورغ”. المسلسل ممتعٌ جداً ويشبه إنتاجات نيكولوديون المرحة، لو كنت من هواتها، كما أنَّ دبلجته ممتازة وبلغة فصيحة جيّدة – مع نكهة مصرية بسيطة. يتألف من موسمين عددهما 65 حلقة، دبلجا للعربية بالكامل.

الفسحة

الفسحة (Recess) هي سلسلة هزلية أخرى من والت ديزني أذيعت ما بين عام 1997 إلى 2001، حيث يزيد عدد حلقاتها عن المائة والعشرين، وتتألف بالكامل من حلقات قصيرة مختصرة جداً عن مجموعة من الأولاد ومغامراتهم في مدرستهم الابتدائية. الفسحة مليءٌ بالنكات المضحكة والممتازة، ولكنه ليس محض مسلسل للهزل، فهو – في الحقيقة – مليءٌ أيضاً بالحكم والعبر الرائعة لو كنتَ مهتماً بملاحظتها. فالعديد من حلقات المسلسل لها مغزى رائع وتحتوي أفكاراً جميلة عن الحياة، التي ربما لم تدركها لو كنتَ شاهدته في طفولتك فحسب. دبلجت MBC 3 جميع حلقات المسلسل إلى اللغة العربية وبثتها مرات عديدة، أصوات الدبلجة جيّدة جداً واللغة عربية فصحى مع لكنة مصرية طفيفة.

سلاحف النينجا

حسناً، هذا لن يكون من التسعينيات تماماً، لكن عليَّ تضمنيه هنا لأنه كان القادح لفكرة كتابة هذه التدوينة من الأساس. سلاحف النينجا أو Teenage Mutant Ninja Turtles (وتعني حرفياً “سلاحف النينجا المراهقين المتحوّلين”) هي سلسلة شهيرة جداً، بدأت على هيئة قصة مصوَّرة ومن ثم تحولت إلى سلاسل كرتونية عدَّة صدر أولها في عام 1987، ولا زالت تصدرُ حتى هذه اللحظة، لكن على هيئة أجزاءٍ مختلفة. لم أعاصر الجزء الأول فعلاً – رغم أني شاهدتُ عشرات الحلقات منه -، لكن النسخة التي شاهدتها مراراً وتكراراً هي إنتاج عام 2003 الذي استمرَّ بالصدور حتى سنة 2008، والذي دبلجت قناة MBC 3 جميع مواسمه إلى العربية في ما عدا السابع والأخير.

يمزجُ المسلسل ما بين قصة جادة، إلى حدّ ما، يخوض فيه سلاحف النينجا ومعلّمهم صراعاً ضد الشرير شريدر أو فرّام، وبين الكثير من المزحات الهزلية الخفيفة ذات الطابع الأمريكي المُميَّز. يتكوَّن هذا الجزء من سبعة مواسم، حيث تتابع المواسم الثلاثة الأولى صراع السلاحف مع شريدر، وفي نهايتها يهزم الشرير ويُنْفَى إلى كويكب متجمِّد في الفضاء البعيد، ومن ثم ينتقلُ الموسم الرابع ليتابع صراع السلاحف مع العميل بيشوب (وهو رجلٌ من المخابرات الأمريكية يسعى لتأسيس وكالة لمكافحة هجمات المخلوقات الفضائية)، والموسم الخامس يتحوَّل من صراعات النينجا التقليدية إلى عالم غريب فيه الكثير من السحر والقوى الخارقة. الموسم السادس مستقلّ بالكامل، حيث يذهبُ فيه السلاحف إلى مدينة نيويورك بعد مئات السنين في المستقبل، ويعودون – أخيراً – إلى موطنهم في الموسم السابع والأخير. المسلسل ذو إنتاج فني ممتاز ومناسبٌ للكبار، برأيي المتواضع، لو كنت من معجبي الكرتون الأمريكي فعليك مشاهدته بالتأكيد.

هذه هي قائمتي، ولو كنتَ تذكر مسلسلات كرتونية جيّدة أخرى من التسعينيات ترى أنها تستحقّ الذكر هناـ فأرجو أن تخبرني بها في التعليقات.

لماذا عليك أن تشاهد مسلسل 13 Reasons Why؟


“مرحباً، اسمي هانا بيكر. أرجو أنَّك مُستعد لكي أحكي لك قصة حياتي، أو بعبارةٍ أدق، قصة انتهائها. إذا كنتَ تستمُع لهذا الشريط فهذا يعني أنَّك كنتَ واحداً من المسؤولين عن نهايتها، ولأن لكلّ قصة 13 سبباً فقد سجَّلتُ ثلاثة عشر شريطاً لكلّ واحدٍ منكم. لديك قاعدتان بسيطتان: أولاً، عليك أن تستمع لجميع هذه الأشرطة، ومن ثمَّ عليك أن ترسلها للشخص الآتي ليتابع الاستماع”.

تبدأُ الحلقة الأولى من سلسلة 13 Reasons Why بهذا التسجيل الصوتي (يمكنك سماعه من الفيديو بالأسفل)، الذي يُقدّم القصة الأساسية لواحدٍ من أفضل المُسلسلات التي شاهدتُها في حياتي. بدأت بمشاهدة المسلسل بداية الأسبوع الماضي، ولحسن الحظّ أن ذلك كان في وقت الإجازة، لأني لم أحتج سوى يومين لإنهاء الحلقات الثلاثة عشر.

لا أُفَضِّلُ، في الواقع، كتابة أيّ شيءٍ عن مسلسلٍ من هذا النوع، لأنَّ ما يجدر بك أن تفعله هو أن تشاهده وحسب، والقراءة عنه لن تفيدك بشيءٍ سوى إفساد بعض أحداث الحلقات الأولى. للأسف، لا أرى طريقة عمليَّة لإقناعك بمُتابعة مسلسلٍ سوى بإعطائك لمحةً عن قصَّته وهدفه، ولكن لو كنتَ مُقتنعاً من الآن (بطريقةٍ ما) فأغلق هذا الهراء واذهب لمشاهدته في الحال.

القصة الأساسية تدورُ حول فتاة في المدرسة الثانوية، اسمُها هانا بيكر، أقدمت على الانتحار. يبدأ المسلسل وصديقها كلاي يُحاول تجاوُز ذكرى هذه المأساة، ويتفاجأ بتعاطُف العديد من زملائه بطريقةٍ غير مسبوقةٍ معه، واهتمامهم بالتقّرب منه ومواساته. لكن مع مُرور الوقت، تظهرُ أمورٌ تُفسّر تغيّر سلوكيات زملائه، حيث يصله طردٌ بريديٌّ فيه 13 تسجيلاً صوتياً من صديقته الميّتة، تشرح فيهم الأسباب التي دفعتها إلى الانتحار، وعلاقة كل شخص يعرفه بفعلتها هذه.

حسناً، القصَّة مُثيرة إلى حدّ ما – عندما تشاهدها على الأقل – لكنها ليست الأمر المذهل هُنا. الإبداع الحقيقيُّ يكمنُ في الواقعية غير العاديَّة للأحداث.

مُعظَم مشاهد مسلسل 13 Reasons Why تدورُ في مدرسة ثانوية ببلدةٍ أمريكيَّة صغيرة. جميع الأحداث خيالية ومختلقة، لكن إن كان صانعو المسلسل قد أولوا شيئاً أشدَّ الاهتمام والعناية، فهو تصوير أجواء الحياة في هذه المدرسة بأكثر طريقةٍ مُقنعة يُمكنك تخيُّلها. ربّما تكون مشاهدة الحلقات الأولى كفيلةً بتغيير الكثير من تصوّراتك عن المدارس الأجنبية، بل ولعلّها ستجعلكَ تغير بعض قناعاتك الفكرية، فلو كنت – مثلاً – تؤيّد الاختلاط في المدارس بين الذكور والإناث، من المُرجَّح أن تجربة المشاهدة ستدفعك إلى إعادة النظر بذلك الرأي كلياً. ليس لأن المسلسل يحاول طرح هذه المسألة فعلاً، بل لأنه يُرِيك الواقع فحسب.

13-reasons-why-youtube-screenshot_1280631

الهدف الأساسيُّ من هذه السلسلة، رغم ذلك، يتمحورُ التوعية بمسألة الانتحار ودوافعها بين الشباب صغار السنّ، ولهذا السبب فإنَّ نجاحها الأكبر يأتي بالتصوير المذهل لتطوّر حياة البطلة، هانا بيكر، وكيفية غرقها بالتعاسة بسبب تراكُم عددٍ كبيرٍ جداً من الحوادث التافهة. يبدو لك كلُّ حادثٍ مزعجٍ تقعُ فيه البطلة مُجرّد أمرٍ طفولي سخيف، إلا أن المسلسل ينجح بدرجة مذهلة بجعلك تشعرُ كيف أن تراكم هذه الحوادث، على صغرها، قد يُدمِّر نفسية إنسانٍ بالكامل ويجعله يفقدُ أي رغبة بالاستمرار بالحياة.

المسلسل مليءٌ باللقطات أو الأحداث المزعجة، لكن تجربة مشاهدته كانت عظيمةً بالكلية. الحلقات ممتعةٌ جداً، وسيرُ الأحداث مشوّق بحيث يجبرك على الجلوس والمشاهدة بعد منتصف الليل عوضاً عن الخلود إلى السرير. تقييمي للسلسلة على موقع IMDB كان تسعة نجومٍ من عشرة، ممَّا يضعه في المرتبة الثانية من حيث أعلى تقييمات المسلسلات على قائمتي، فلم يتغلَّب عليه (بالنسبة لي) سوى مسلسل Game of Thrones. لذا، أعتقد أني سأقضي الفترة المقبلة بنُصح كل من أعرفهم بمشاهدته.

لماذا لا يرغبُ طلبة الجامعات بالتعلّم؟


أعلنت مُدرّسة المادة في ختام المحاضرة، “والآن سوف أعطيكُم فرضاً منزلياً للحصَّة القادمة”، فارتسمت التعاسة على وُجوه جميع الطلاّب، وامتلأت القاعة – كالعادة – بأصوات التأفّف والتذمّر المكتومة أو المجهورة، ليبدأ بعدها الطلاب بتبادُل الشكاوى المسموعة مع زملائهم. تكرَّر هذا الموقفُ (الذي حدث بالأمس) أمامي عدداً هائلاً من المرَّات مُنذ أن دخلتُ الجامعة لأوَّل مرة، قبل سبعة شهور، ولا زال يحدثُ بصورة دورية في مُعظم محاضراتي.

رد الفعل الدراماتيكي هذا ليس إلا جانباً بسيطاً ممَّا أُسَمِّيه عقلية الطالب الجامعي التعيس في الأردن، حيث يجبُ على كلّ شاب أو فتاة في المرحلة الجامعية بهذه البلاد قضاءُ يومه الدراسي كاملاً بالتباكي (مع جميع أصدقائه ومعارفه) على صعوبات دراسته وأساتذته ومآسيه اللانهائية، وكيف أنَّه كان يُفضّل البقاء في المدرسة على القُدُوم إلى هذا المكان الجحيمي، وعلى الأرجح أنَّ هذا – أيضاً – سببٌ لا يُستهان به في عدم كفاءة الطلاب ولا خرِّيجي الجامعات الأردنية والعربية عموماً.

tarazi (7)

عقلية الطالب الجامعي
لعلَّ أساس المُشكلة يكمنُ بما قبل الجامعة، فمُعظم الشباب العاديين يدخُلونَ الجامعة وهم لم يتخرَّجُوا من المدرسة سوى قبل شهورٍ أو أسابيع، ولهذا يبدو أنهم يواجهون صعوبةً حقيقيَّة في تجاوُز عقلية أولاد المدارس التي كانوا مُعتادين عليها سابقاً. فهُم لا يريدون سوى الجلوس إلى المقاعد والدردشة مع أصدقائهم أو العبث بهواتفهم حتى انتهاء الدّروس، ويعتقدُون أنَّ لهُم الحق الكامل – بعد إمضاء جميع دروسهم بهذه الطريقة – بالدّخول إلى الامتحانات والحُصول على أعلى العلامات وأروع المُعدّلات، ولو فشلوا بذلك، فاللَّومُ لا يُمكن أن يكون عليهم، بل هو على صعوبة الامتحان وعلى الأستاذ الشرير.

في بعض المواد التي درستُها مررتُ على أساتذة لطيفين جداً بحيثُ أنهم كانوا يحاولون الرّضوخ لمطالب طلابهم مرَّة بعد الأخرى. في مادة مدخل علم اللغويات، على سبيل المثال، استمرَّت مُدرِّستُنا بتقليص مادة الامتحان النهائي – تنازُلاً عند شكاوى الطلاب – حتى تقزَّمَت من 13 فصلاً في الكتاب الكامل إلى ثلاثة فُصولٍ فحسب، لكن بعد كلّ إعلانٍ عن تقليص مادة الامتحان، لم يتغيَّر شيء. الشكاوى والتذمّر والتأفّف ظلَّت تملأ المكان.

cartoon6420

المُشكلة هي أن جميع طلاب هذا البلد، أو السواد الأعظم منهُم، يدخلُون الجامعات وهُم قد عقدوا نيَّة مُسبقة بعدم الرغبة ببذل أدنى مقدارٍ من الجُهْد في أي شيء، حقيقةً، فهُم مهيّئون نفسياً وذهنياً لأن الغاية الوحيدة من وُجودهم في الحياة هي القدوم إلى الجامعة وقت بداية الدوام والانصراف عندَ نهايته، ولا شيء سوى ذلك. مُعظَم الطلاب لا يهتمّون بحُضور دروسهم إلا لو كان المُدرّس يرصدُ “الحضور والغياب”، ولا يرونَ أنَّ من حقِّ المُدرّس تكليفهم بأيِّ نوعٍ من المهام عدا الجُلُوس والاستماع لكلامه، ولو تجرَّأ على غير ذلك فهو مخلوقٌ شريرٌ يُريد إهدار أوقاتهم الثَّمينة بواجباتٍ عديمة الفائدة.

ماذا عن التعلّم؟
فكرةُ الرغبة بدُخُول الجامعات والخروج منها دون بذل أيّ نوع من الجهد غريبةٌ فعلاً، لأنَّ الغرض من وُجود هذه المُؤسَّسة يُفتَرض أن يكون التعلّم، وهو ليس أمراً سهلاً. مُجرَّد كونِ الشَّخص طالباً جامعياً لا يعني أنَّ غايتهُ بالحياة هي الاستماع للمحاضرات، بل عليه أن يُتعِب نفسه بفهم واستيعاب المادة، ومن ثم التمرُّن عليها مراراً بالواجبات، أو المهام الجماعية، أو الاختبارات القصيرة. صدّقني، المُدرِّس ليس موجوداً لإعطائك العلامة الذهبية A ومن ثمَّ الانصراف عن حياتك للأبد، بل هدفهُ أن يُلقِّنك شيئاً مُفيداً. يُفترض أن الأمرَ منطقي، لكنَّ مُحاولة إقناع الطلاب الآخرين به تبدُو مستحيلة.

أكثر شخصٍ أفادني في حياتي العمليَّة مُنذ دخولي للجامعة هو مُدرّسة أمريكية، اسمُها Addie Leak، أعطتني مادة الكتابة في فصلي الأول بالجامعة، وهي أيضاً أكثرُ مُدرّسة أرهقتني خلال سنتي الدراسية. كان أغلبُ الطلاب يكرهُونها لأنها يجبُ أن تُعطينا واجباً من عدَّة صفحات بعد كلِّ محاضرة، كما أنها كانت تحب الامتحانات المُفاجئة، وكانت تُصحِّح جميع الأوراق بدقَّة شديدة. ومع أنَّ مُتابعة المادة معها تطلَّبت الكثير من الوقت والإرهاق، إلا أنَّني – صدقاً – لا زلتُ أستفيد مما علَّمتني إيَّاهُ في كلِّ عبارةٍ أكتبها باللغة الإنكليزية. لا يُمكنني وصفُ كمِّ الفائدة التي حصلتُ عليها من تلك المادة.

وبالمقابل، فإنَّ الأساتذة الذين لم يعطوني واجباتٍ واختباراتٍ بما يكفي خرجتُ من محاضراتهم دُون فائدةٍ حقيقيَّة تُذكَر، وبالكاد تخطرُ على بالي الأمور التي كانوا يتحدثونَ عنها في أوقات المحاضرات.

Untitled-1_large

ماذا لو كان هذا كُلّه محض تحدٍّ؟
قضيتُ معظم الأيام الأخيرة من حياتي وأنا منهمكٌ بقراءة رواية خيالٍ علمي مُمتعة جداً، اسمها Ender’s Game. تتحدَّثُ عن القصة عن عالمٍ مُستقبليّ تواجه فيه البشريَّة خطرَ الهلاك أمام غزوٍ لمخلوقاتٍ فضائية من مجرَّة أخرى، ولإنقاذ البشرية من الفناء، يُقرِّر تحالفٌ عسكريٌّ عالميٌّ إنشاء مدرسةٍ للأطفال الصغار لتدريبهم على الفُنون القتالية. الهدفُ الحقيقي من هذه المدرسة ليس تدريب الجنود، بل الحُصول على إنسانٍ واحدٍ مُميِّز جداً: شخصٍ واحدٍ عبقريّ وموهوب بما يَكفي ليستطيع قيادة جيوش البشر إلى نصرٍ مُوزَّرٍ أمام الغزاة الفضائيِّين. هذا الشخص هو بطلُ القصة، Ender Wiggin، ولكن كيفَ يُمكن أن يجعلوهُ مستعداً لما سيأتي؟ الأمرُ بسيط، فهم يضعُون أمامه أصعب العقبات وأكثرها استحالة، ويُراقبونه بصمتٍ مُنتظرين أن يتعلَّم طريقةً للتعامُل معها اعتماداً على نفسه.

لو كنتَ من مُحبّي الأنمي وأفلام الأكشن، فأنتَ على الأرجح شاهدت هذا مرَّات عديدة أيضاً. غالباً ما يكونُ أبطال القصص الرائعين شخصيات كادحة تضطرُّ لخوض التحديات والتعلّم منها مراراً قبل النجاح. والحقيقة أنَّ هذه الفكرة ليست سوى استعارةٍ من الحياة الواقعية، فأيّ إنسانٍ يسعى للتحسّن عليه أن يواجِهَ العقبات، كيف يُمكن للإنسان اكتسابُ أيّ شيءٍ مُميَّز دُون ذلك؟

الأمرُ بديهيٌّ جداً. لو كنتَ تُريد أن تتميَّز عن غيرك، فعليكَ اكتسابُ مهاراتٍ خاصَّة بك، وكما توصَّلتُ من تدوينةٍ طويلةٍ جداً لي بالسابق، فإنَّه لا يُمكن لأي إنسان – مهما كان موهوباً – أن يكتسبَ مهارة دون تدريب، فحتى ولو كانت الموهبة الطبيعية موجودة لديك فإنَّ عليكَ بذل الكثير من الجُهْد لتطويرها والاستفادة منها.

aso_mahler2007b
قضى كلّ واحدٍ من هؤلاء العازفين آلاف الساعات من حياته بالتمرّن على آلاته استعداداً لهذه اللحظة.

لذا، عوضاً عن النظر إلى الأساتذة الصَّعبين أو المواد المُعقَّدة على أنها شيءٌ مُخيف، عليك أن تبحث عنها وأن تسعى لها عن عمد، فهي وسيلة ذهبية لتحدِّي نفسك وتقوية نقاط ضعفك. مثلاً، لو كنت سيئاً في الفيزياء، فعليك إذاً أن تأخذ مادة الفيزياء عند أصعب مُدرسِّيها وأكثرهم شدَّة بالواجبات والامتحانات، لأنَّه أكثرُ شخصٍ سيُجبرك على التعمُّق بالمادة وفهمها، حتى دُون رغبةٍ منك. ألديك مُشكلةٌ مع اللغة الإنكليزية؟ اختَر مُدرِّساً يتحدَّثُ الإنكليزية بأعقد وأرقى صورها، حتى ولو لم تفهم شيئاً من كلامه في أول الأمر.

بمُجرّد أن تبدأ بالتفكير بهذه الطريقة، ستشعرُ بإحساس أفضل بكثير نحو دراستك. فأنتَ لا تخوضُ عقاباً جحيمياً لتدمير حياتك ومُعدّلك الدراسي، بل كلُّ ما في الأمر أنَّ أمامَك عقباتٍ عليك تجاوُزها لتُطوّر من نفسك، وفي النهاية، لو كنتَ فعلاً تحبّ اختصاصك وترغبُ بالنّجاح فيه، فإنَّ ما من شيءٍ سيُساعدك مثل أخذ منهجك الجامعي بجديَّة.

لغات العالم ومُستقبلها الحالك


هل فكَّرتَ يوماً بكم يُمكن أن يكون عدد اللغات الموجودة في عالمنا؟ أي طفلٍ تسألهُ عن اللغات سيستطيع ذكرَ عددٍ لا يُستهَان به منها بسهولة، فمُعظم دول أوروبا وآسيا لها لغاتٌ خاصَّة بها، والكلّ يعلم (مثلاً) أن أهل روسيا يتحدثون اللغة الروسية، وأن الهند لغتها الهندية، وعلى الأرجح أنَّك لو حاولتَ الآن، سوف تستطيعُ تعداد أسماء عشرين أو ثلاثين لُغةً بسرعة، ولكنَّك ستعجزُ عن العدّ بعد ذلك. حيث أنَّ معظم الأشخاص البالغين، في اعتقادي، ليست لديهم أدنى فكرة عن توزّع اللغات في العالم، ولا يعرفُون عنها سوى القليل بالعادة.

والواقع أنَّ نصفَ سكان العالم – تقريباً – لا يتحدَّثُون سوى 15 لغة، ووحتى هذه اللغات الخمسة عشر منها، في الغالب، لغاتٌ لم تسمع بها بحياتك، مثل لغة الوُو التي يتحدَّثُها شعرات الملايين في الصين، أو اللغتين التيلوغية والبنجابية في الهند، أو اللغة الجاوية التي يتحدثها نصفُ سكان إندونيسيا. وبالعودة إلى سؤالنا، فإنَّ عدد اللغات الموجودة على الأرض الآن يُعادل أكثر من 7,000 لغة، ولكنّ مُعظمها على وشك الاختفاء إلى الأبد خلال السنوات القادمة.

2035px-languages_world_map-svg
تُوضّح هذه الخريطة توزّع المجموعات الأساسية للغات في العالم الحديث. اللغات الساميَّة (بما فيها العربية والعبرية) تظهرُ باللون البرتقالي.

لماذا تُوجد كلّ هذه اللغات؟ 

ولادة اللغات وتنوّعها وفي النهاية اندثارها هي إحدى الظواهر الطبيعيَّة في حضارة الإنسان. على مرّ التاريخ، يُوجَد عددٌ لا يُمكن إحصاؤه من اللغات التي ظهرت وانقرضت بصُورة متتالية. والحقيقة أنَّ مُعظَم اللغات الموجودة في العالم الآن هي لغاتٌ جديدة لم تكُن موجودة لزمنٍ طويل.

فلو عُدتَ للوثائق التي كانت مكتوبةً بالإنكليزية أو الفرنسية قبل خمسمائة عامٍ ستجدُ أنها كانت لُغاتٍ مختلفة تماماً عن تلك التي تُستَعمل اليوم، وعلى سبيل المثال، يُحدّد قاموس أكسفورد الشهير تاريخ ميلاد اللغة الإنكليزية بحوالي سنة 1500م، وقبل ذلك كان أهل إنكلترا يتحدثون اللغة الإنكليزية الوسيطة، وهي لهجة قديمة من اللغة الإنكليزية كانت مُختلفةً جداً عن اللغة الحديثة. وقد لا يُحبّ العديدون الاعتراف بذلك، لكن العربية أيضاً (ورُغْم أنها من اللغات المحفوظة جيّداً إلى حدّ ما) قد تحوَّلت إلى لُغةٍ مُختلفةٍ عن تلك التي كان يتحدَّثُ بها العرب قبل ألف وخمسمائة عام، والدَّليلُ على ذلك هو أنَّ مُعظم الناطقين بالعربيَّة لا يستطيعُون قراءة كتاب عربيّ عُمره ألف سنة وفهم أكثر من بضعة سطور.

كيف تُولَد اللغات الجديدة؟ 

اللغات تُولَد بطبيعتها، وتندثرُ مع مرور الزمن بطبيعتها أيضاً، فإيقافُ هذه العملية مُستحيل. ولكن كيفيّة حُدوثها مثيرة جداً. ولادة اللغات تحصلُ نتيجة التراكُم التدريجي لاختلافات بسيطة في الكلام واللهجات بين الناس. لتتخيَّل ذلك، ضع في الحُسبان أنك لو (عشتَ في أي بلدٍ بالعالم لفترة طويلة) ستكونُ قادراً على تمييز المدينة أو المنطقة التي ينتمي إليها الناس بهذا البلد من لهجة حديثهم. فكلُّ مدينة وكل قرية، وأحياناً كل حيّ أيضاً، بكل مكانٍ بالعالم تكون لأهله طريقةٌ بالكلام خاصَّةٌ بهم تُميّزهم عن سائر الناس الآخرين. يستطيع أي سوريّ تمييز ابن مدينة حمص عن ابن حماة من لهجته، كما يستطيع المصري تمييز ابن الصعيد عن ابن الإسكندرية، وكذلك يستطيعُ العراقي والجزائري والمغربي.

4385007040_8078dbc868_b

وهذه الاختلافاتُ بين أهل المدن ليست موجودة بمحض الصّدفة، بل إنَّ لها أسباباً ثابتة. العاملُ الرئيسي في تنوّع اللهجات هو تطور اللّغة، حيث أنَّ لغة البشر لا يُمكن أن تبقى على حالها، بل هي في حالة تغيّر وتعدّل وتطور دائمة لا تتوقف. كمثال بسيط، من المُؤكَّد أن أي إنسان عربي توفّي قبل خمسين عاماً لم يكُن ليسمع بحياته بمُصطلح “الإنترنت” أو “الفيسبوك” أو “الإنستغرام”، بل من السَّهل أن لا يكونَ قد سمع باصطلاح الكمبيوتر/الحاسب ولا بالكثير من الأشياء الأخرى البديهيَّة لنا الآن. فهذه كُلّها مصطلحاتٌ جديدة قد دخلت على اللغة.

ونحنُ نعرف هذه المُصطلحات الآن لأننا نعيشُ في مجتمعٍ يتداولُها، لكن لو عشتَ بانعزالٍ عن الناس، فإن هذه المُصطلحات لن تنتقل لك. تخيَّل قرية معزولةً وسط الصحراء في جزيرة العرب القديمة. لو ظهر مصطلحٌ جديدٌ في هذه القرية، فإنَّ لا أحد من خارجها سيعرفُ به، إلا لو أتى وزار القرية وعاش بين أهلها فترةً ليتعرَّف على هذا المُصطَلح. ولأن التنقّل كان صعباً – إجمالاً – في البلاد القديمة، فإنَّ انتقال اللغة والاصطلاحات كان أمراً صعباً، وبالتالي وُلِدَت لكلّ منطقة كلمات وطريقة بالحديث خاصَّة بها، ولم يكُن لغير أهلها أن يتحدَّثُوا بنفس الطريقة. ومع تراكُم هذا التأثير، تولَّدت العديدُ من اللغات الجديدة.

وقد تعتقدُ أن المصطلحات الحديثة التي ظهرت بسبب الإنترنت هي حالة خاصَّة جاءت بفعل التطور التكنولوجي غير المسبوق للعالم، لكن الاصطلاحات الجديدة والغريبة كانت موجودةً دائماً في اللغات بكلّ مكانٍ بالعالم، بل وكانت تأتي المصطلحات الدَّخيلةُ على اللغة بطرقٍ شتى ربما كانت أشد قوة ممَّا هي الآن.

التحوّلات التاريخية

كانت من أهمّ العوامل في التأثير على اللغات القديمة الحروب وقيام واندثار الحضارات، فكلّ حضارةٍ تندثرُ كانت تخسرُ لغتها إلى الأبد، وحلّ حضارةٍ قويَّة تبزغُ كانت تفرضُ لغتها على جيرانها الضّعفاء. مثلاً، انتهى تداولُ اللغة البابلية في العراق بعد سُقوط الإمبراطورية البابلية، وحلَّت محلَّها لاحقاً السومرية والأكادية ولُغاتٌ أخرى، ثُمَّ وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية السَّاسانية فأصبحت تتحدَّثُ الفارسية. والعراقيُّون الآن يتحدثون العربيَّة بسبب الفُتوحات الإسلامية لا أكثر.

لو قام أحدٌ بإجراء دراسة عن الأصول اللغوية للكلمات المتداولة باللهجتين السورية واللبنانية، سيجدُ أنها تعودُ إلى ثلاثات لغاتٍ أساسية: هي العربية، والفرنسية، والتركية. وقد يُخمِّن أي شخصٍ مُطّلعٍ على التاريخ أن الكلمات الفرنسية جاءت بفعل الاستعمار الفرنسي الذي دام لرُبْع قرنٍ من سنة 1920 إلى 1946، وأما التركية فجاءت من الحُكم العثماني الذي تمتدُّ جذوره إلى مئات السّنين قبل ذلك. وبطبيعة الحال كان للحُكم الفرنسي والتركي تأثيرٌ ثقافي كبير على بلاد الشام، تجلَّى باستعارة العديد من كلمات من لغتيهما.

2000px-origins_of_english_piechart-svg
أصول الكلمات الإنكليزية المُتداولة الآن.

ولو فكرتَ بالأمر، ستجدُ أن سيطرة الشعوب الأجنبية على غيرها كانت ظاهرةً أكثر انتشاراً بالعالم بمرَّات كثيرةٍ في العصور القديمة، حيث كان العالم كُلّه في حالة صراعٍ وحروب لا تتوقف، وذلك يعني أن الشعوب المُستعمِرَة كانت تنقُلُ لغاتها عبر العالم، وكانت الشعوب الأضعفُ منها تستقي من كلماتها واصطلاحاتها. ولهذا السَّبب تجدُ ان اللغة الفارسية استمدَّت نسبةً عملاقةً من كلماتها من العربية، وكذلك التركية والأردو والأمازيغية. ولو نظرتَ إلى هذا الرسم البياني بالأعلى، ستجدُ أن جميع كلمات اللغة الإنكليزية الحديثة ما هي إلا استعاراتٌ من لُغاتٍ قديمة مُتنوّعة أهمها اللاتينية والفرنسية، ويعودُ السَّببُ في ذلك إلى تاريخٍ طويلٍ ومُعقَّد، ويُمكن – مثلاً – أن تُعزَى اللغة اللاتينية إلى أن جنوب بريطانيا كان واقعاً تحت الحُكْم الروماني من سنة 43 إلى 410م، والفرنسية إلى وُقوع الغزو النورماندي على إنكلترا في القرن الحادي عشر الميلادي.

توزّع اللغات في العالم

لكن حُروب العالم القديمة أدَّت إلى انتشار أو اندثار اللغات الموجودة بالفِعْل، ولكن على أيّ أساسٍ وُجِدَت هذه اللغات في أماكنها أصلاً؟ في الحقيقة، يعودُ تنوّع لغات العالم وتطوّرها – بالنسبة الأعظم رُبّما – للطبيعة الجغرافية للأرض.

لنأخذ مثالاً الجزيرة العربيَّة. شبه جزيرة العرب هي أرضٌ ضخمة جداً، فمساحتُها تزيد على ثلاثة ملايين كيلومترٍ مُربَّع، ومع ذلك فإنَّ مُعظَم سكانها، حتى قبل مجيء الإسلام وانتشاره، كانوا يتحدَّثُون لهجاتٍ مُتفاوتة من لُغة واحدة: وهي العربيَّة. وتُعادل مساحة جزيرة العرب – تقريباً – مساحة دولة الهند الحديثة، ولكنَّ الهند، مُنذ القدم، تُوجَد فيها لغاتٌ كثيرةٌ جداً، وحتى الآن، لا يزالُ الهنود يتحدَّثُون أكثر من 150 لغة. وأخيراً لدينا جزيرة غينيا الجديدة، وهي جزيرة تقع بالقُرب من أستراليا ولا تزيدُ مساحتها عن ربع مساحة الهند، ومع ذلك فإنَّها تحتضنُ 1061 لغة، أي واحدةً من كلّ سبع لغاتٍ في عالمنا الآن!

papua-new-guinea-ambua-lodge-guard-1000
رجلُ قبيلةٍ من جزيرة نيو غينيا، تمتدّ ورائه تلال وغابات جزيرته الشاسعة.

ويعودُ هذا التفاوت بدرجةٍ كبيرةٍ إلى العوائق الجغرافية والثقافية التي سمحت لشُعوب الجزيرة العربية والهند وغينيا الجديدة بالاتّصال مع جيرانهم. فجزيرةُ العرب (ما عدا أطرافها) هي عبارةٌ عن صحارى وسهولٍ جرداء مفتوحة، ولذلك كان من السَّهل دائماً على سُكَّانها التنقّل فيها والاتصالُ مع بعضهم البعض، إما للمُتاجرة بالبضائع، أو للتنقّل بقُطعانهم من الماشية بحثاً عن مراعٍ، أو للحجّ إلى مكة. ولكلّ هذه الأسباب، كانت المُصطلحات والتراكيب اللغويَّة الجديدةُ تنتقلُ دائماً بين قدماء العرب، ولذلك بقي حديثهم – إلى حدّ ما – مُتماثلاً ومُتشابهاً.

وأما الهند فإنَّ فيها الكثير من الغابات والمُستنقعات التي لا تجعلُ التنقّل فيها سهلاً جداً، ومعَ ذلك فإنَّ لسُكَّانها حضارةً قديمةً مُزدهرة، وقد كانت للهُنود صلاتٌ نجاريَّة وثيقةٌ بالعالم القديم، فكان التجار الهُنود يرتحلون إلى الصين وفارس وبلاد العرب وأوروبا مُحمِّلِين بضائعهم، وبالتالي كانوا على اتّصالٍ دائمٍ مع حضارات العالم، ولذلك فإنَّ التنوّع اللغوي لديهم مُعتدِل.

ولكن غينيا الجديدة، أخيراً، ليست سوى جزيرةٍ معزولةٍ في غربي المُحيط الهادئ، ولم تكُن معروفةً لمُعظم حضارات العالم القديم (إلا لبعض الممالك الإندونيسية) حتى وُصول المُستكشفين الأوروبيِّين إليها في سنة 1526. والقسم الداخليُّ من هذه الجزيرة وعرٌ جداً، فهوَّ عبارةٌ عن سلسلة من الجبال الوعرة المُغطَّاة بالأدغال الكثيفة، وبالتالي، فقد كان من السَّهلِ على سُكَّانها أن يعيشُون على مسافاتٍ قليلة نسبياً من بعضهم البعض دُون أن يعرفُوا بوُجود بعضهم ،أو دُون أن يرغبوا بالاحتكاك بغيرهم من المجموعات والقبائل. وفي الواقع، تُعتبر غينيا الجديدة واحدةً من أماكن معدودةٍ في العالم لا زالت تسكُنها قبائلُ بدائيَّة لم يسِق لها وأن أجرت أيَّ نوعٍ من التواصل مع الإنسان الحديث.

isolierte-vc3b6lker
هذه البقاع السّوداء تُمثّل آخر المجموعات السُكَّانية في العالم التي لم يسبق لها وأن اتَّصلت مع الحضارة الحديثة أو عرفت بوُجودها. تقعُ جزيرة غينيا الجديدة في أقصى اليمين.

المخاطرُ المحدقة بتنوّع اللغات في العالم

عندما يتوقَّفُ أحدٌ عن تعليم اللغات العريقة في بلده لأطفاله، ويموتُ آخرُ شخصٍ كان يتحدَّثُ تلك اللغة، فإنَّ اللغة تُصبحُ منقرضة. يُعتقد أن هذا هو المصير الذي ستُواجهه مُعظم اللغات المُتبقّية في عالمنا خلال القرن الحالي. ففي الوقت الحاضر، غالبيّة اللغات لا يتحدَّثُها سوى 10,000 إنسانٍ أو أقلّ، وأعدادُ متحدثيها تتناقصُ بصُورة مُتسارعة، لأنَّ مُعظم متحدثي هؤلاء اللغات هُم من السكان البدائيِّين لمناطق غير حضريَّة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، ومع اتّصالهم بالحضارة الحديثة أصبحوا يتحوَّلُون لاستعمال اللغات الغربيَّة المُتداولةً عوضاً عن لُغاتهم الأصليَّة.

تُشير التقديرات إلى أنَّ القرن الواحد والعشرين سيشهدُ انقراض ما بين 50 إلى 90% من كافّة اللغات الموجودة. في الحقيقة، جميعُ هذه اللغات تقريباً – بالفعل – لم يعُد الأطفال يتعلَّمُونها في أيّ مكانٍ بالعالم، فمُنذ سنواتٍ طويلةٍ أصبح الأطفال الأفارقة واللاتينيّون والأستراليّون لا يتعلَّمُون إلا باللغة الإنكليزية أو الإسبانية أو اللغات الأخرى المُنتشرة في بلادهم، وبالتالي، فبمُجرّد وفاة آخر الأشخاص كبار السنّ الذين لا زالوا يتحدَّثُون اللغات الأصلية لتلك المناطق، سوف تندثر هذه اللغات للأبد.

يُحاول العديد من علماء اللغات توعية السُكَّان الأصليِّين بمسألة اللغات المتدهورة وتشجيع أشخاصٍ جُددٍ على تعلّمها، لكن جُهودهم متواضعةٌ جداً لتستطيع كبحَ الكارثة. تدعو منظّمة اليونسكو بصُورة متزايدة (في السنوات الأخيرة خُصوصاً) إلى حماية لُغات العالم وإنقاذها بصفتها إرثاً ثقافياً، ولكن من المُرجَّح أن مُعظم اللغات المُتدَاولة ستندثرُ في السّنين القادمة، وستندثرُ معها ثقافة وتاريخ أصحابها للأبد.

monument_to_dolly_pentreath_-_geograph-org-uk_-_780405
ترقدُ في هذا القبر آخر إنسانة كانت تُجِيد تحدّث اللغة الكورنية (وهي لُغة من جنوب بريطانيا) في العالم، تُوفِّيَت سنة 1777، وبوفاتها انقرضت اللغة الكورنيَّة. يُحاول عُلماء اللغة البريطانيون الآن إحياء هذه اللغة من جديد.

صُدور كتابي الرَّائع: حكاية ويكيبيديا!


للأسف، منعني تحديثُ مدوَّنتي – خلال الأيام الماضية – من كتابة مقالة عن هذا الحدث المُهمّ، الذي جاء في يوم الجُمعة الفائت المُوافق لـ24 من فبراير. فقبل بضعة أيام، احتفلتُ أخيراً بنشري أول كتاب لي في حياتي، وهو أمرٌ مُميَّز فعلاً بالنسبة لي.

لطالما رغبتُ بأن يكون لي كتاب، وفي الحقيقة، حاولتُ، على مرّ سنين طفولتي، أن أؤلّف عدداً من الكتب، حتى أنّ منها ما طُبِعَ ووُزِّعَ لبعض أفراد العائلة (يُسعدني أنَّهم استطاعوا أن يُسيطروا على ردود أفعالهم بهيئة ابتساماتٍ لطيفة)، وقد بقيَ لدي هذا الشغفُ عندما كبرت، ولكن المُشكلة التي شعرتُ بها دوماً هي أني لم أكن قادراً على تقديم مُحتوى مُميَّز أو فريدٍ عن غيري في أيّ موضوع.

No.1 best-selling book on college campuses - 'How to say 'send money' in 101 languages'.

ففي نهاية المطاف، مُعظم الكتب في العالم هي محضُ تلخيصٍ وترتيبٍ وإعادة توزيع للمعلومات المُتوافرة بالفعل في مصادر أخرى، ولو لم تكُن لديك مؤهلات أكاديمية خاصَّة فإن قُدرتك على كتابة شيءٍ مُفيد تكون قليلةً في العادة. وأما ما يُسعدني حيال عملي هذا، فهو أنَّه يُقدّم شيئاً فريداً – بالنسبة لي -، بل ولا تتناولهُ سوى كتب معدودةٌ أخرى في العالم.

قصَّة كتابي

هذا الكتاب هو مشروعٌ عُمره سنوات. ففكرتُه الأولى جاءتني عندما ابتدئتُ بحضور بعض المؤتمرات والمُلتقيات الخاصَّة بموسوعة ويكيبيديا، ففي تلك الرحلات قابلتُ أناساً كثراً من بلدان عديدة جداً، وبدأت أشعر بأنِّي جزءٌ من شيء رائع يستحقّ أن أتحدَّث عنه. وقد كتبتُ مُقدّمة كتابي، في صورتها الأولى، في وقتٍ ما من بداية سنة 2013، وظللتُ أذهب وأعود لأضيف فصولاً أو أحذفها منه طوال الفترة التي تبعت ذلك. ولم أستطِع أخذ الأمر بجديَّة إلا في العام الفائت، عندما حاولتُ – للمرَّة الأولى في حياتي – وضعَ أهدافٍ لنفسي لأنجزَها خلال العام (ما يُصطَلح على تسميته New year’s resolution)، وكان أوَّل أهدافي لعام 2016 هو إنهاءُ الكتاب.. ولكنَّ الأمر استغرق بعض الوقت.

كنتُ في الغالب، طوال هذه السنوات الثلاث، أغيب لشهور عديدة عن الكتابة حتى أنسى أمرها تماماً، ولذلك تعايشتُ مع اعتبار عملي هذا مشروعاً مُستقبلياً قد لا ينتهي أبداً، أو قد يأخذ سنوات كثيرة جداً ليتم، ودعني أُفسّر لك السَّبب، فهو بسيطٌ جداً: وهو مُعضلة عدم الرّضى. فكُلَّما كنتُ أغيب لفترة وأعود لأقرأ فصلاً كتبتُه فيما مضى كنتُ أجده سيئاً جداً، فكنتُ أحذفُ نصفه، وأعيد كتابته وتحرير وتدقيقه، وأنتهي منهُ وأقرؤه فأجد أنه أصبحَ رائعاً. ثُمَّ أغيب عدة شهور، وعندما أعُود لأقرأ عملي أجدهُ في حالٍ أسوأ ممَّا كان، وأضطرُّ لإعادة كتابته من جديد.

ولأكون صريحاً معك، فإنِّي عندما قرأتُ كتابي للمرة الأخيرة، وكان ذلك قبل أسبوعَيْن تقريباً، تولَّدت لديَّ قناعةٌ ذاتيَّة تامَّة بأنه سيء جداً، ويجبُ تدميره وإعادة بنائه من الصّفر. وقد راسلتُ بالفعل المُخرج الفنيّ للكتاب (وهو صديقي أحمد أبو زيد، أحدُ شخصيَّات المُجتمع الحرّ العربي) وطلبتُ منه إعطائي الفُرصة لتحرير عملي وإعادة صياغته، ولكنَّه تحجَّج بأن الكتاب كان قد أصبح في المراحل الأخيرة من الإخراج، وقالَ لي أن الأوان قد فات على إجراء أيّ تعديلات، وبأن عليَّ تركَها للإصدار القادِم!

wikiarabia_2016_day_1_285729

عن ماذا يتحدَّثُ الكتاب؟

الوظيفةُ الأساسيَّة لهذا الكتاب هي سردُ آليَّة عمل الأمور داخل ويكيبيديا. فجميعُ متصفّحي الإنترنت – تقريباً – يعرفُون ما هي ويكيبيديا، ويستعملُونها بصورة دوريّة أو شبه يوميَّة، ورُبّما يفهمُون أنَّها عبارةٌ عن جهد جماعي يُشارك فيه الكثير من الناس، لكن لا أحدَ – سوى معشر الويكيبيديِّين القليلين جداً – يفهمُ فعلاً كيف تُكتَب مقالات ويكيبيديا وتُصَان ويُعنَى بها لتصل إلى القارئ بشكلها النهائي.

فمن المُؤكَّد أن السَّماح لأيّ متصفح للإنترنت بتعديل موقع بحجم ويكيبيديا يفتحُ مجالاً لا نهائياً للعبث والتخريب والمعلومات غير الموثُوقة، ولكن ويكيبيديا، بطريقةٍ ما، تحمي مقالاتها بالكامل تقريباً من هذا الأثر، وهذا ليس سوى نتاجاً لنظامٍ بالغ التعقيد من القوانين والقواعد التي يحرصُ على تطبيقها مُجتمع الويكيبيديِّين بوسائل شتّى.

يشرحُ الكتاب هذه الآليَّات باستفاضةٍ كبيرة، كما يتناولُ بعض القضايا الجدليَّة التي يُناقشها الإنترنت (خُصوصاً العربيّ)، مثل حيادية ويكيبيديا، ويتناولُ أيضاً مسائل جانبية، منها سياسات المال والإنفاق لدى ويكيبيديا، والمشاريع المُنظَّمة في البلاد العربيَّة لإثراء مُحتوى هذه الموسوعة.

عن مشاعري كمؤلّف

حسناً، رُبّما لا أستطيع أن أسمّي نفسي “مؤلّفاً” بعد لأنَّ الكتاب لم يُطبَع ولم يُنشَر بالطريقة التقليدية، بل هو محضُ إصدار “ذاتيّ النشر” يقرؤه بعضُ متصفّحي الإنترنت، ثُمَّ يمضُون في طريقهم ويُتابعون ما يفعلون على الفيسبوك أو ما شابَه. ومع ذلك، فإنَّ لديَّ الكثير من المشاعر المُتناقضة والمُتزاحمة والمتكدّسة في عقلي طوالَ الأسبوع الماضي حيال عملي، بحيثُ أصبحت تُزعجني. باختصار: مشاعري الأساسية تتمثَّلُ في الترقّب الشديد، وقلَّة الرضى، وشيءٍ من الإحساس بالإنجاز.

The novel was printed and in the stores ... any minute now, the world would beat down his door.

رُبّما تجدُ هذا غريباً، ولكن لكلِّ واحدٍ من هذه الأحاسيس أسباباً أستطيعُ سردها. في البداية، الترقّب هو أول ما ستشعرُ به عند عرضِ إنجاز شخصيّ مُهمّ بالنسبة لك على الناس، فأنتَ تنتظرُ ردود الأفعال، وسواء أكانت إيجابية أم سلبية أم غير موجودةٍ أصلاً، فأنتَ سوف تستمرُّ بالتوتر والترقّب والتربّص إلى ما لا نهاية، حتى تشعرَ بأنَّ حياتك كُلّها معلَّقة على المحك – لسببٍ ما – على ما سيأتيك من رُدود، وستكونُ مثل هذا الفتى في الأعلى، تنتظرُ الناس ليبدؤوا باقتحام غُرفتك وينهالوا عليك.

الأمر الثاني، وهو قلَّة الرضى، فهو دوَّامةٌ أشعرُ بأنَّ الخُروج منها مُستحيل: صدّقني، أنا الآن واثقٌ بكلّ عزيمةٍ وإصرارٍ أنَّه ما من مؤلّف ولا رسّام ولا موسيقي أو فنَّان في العالم ينتهي من عمله وهو شاعرٌ بالرّضى في أعماق نفسه، إلا في حالاتٍ معدودةٍ رُبّما. لا تُصدّق كلمة “كتابي الرائع” في العُنوان، فهي محضُ خدعة. فعلياً: عندما تستثمُر جهدك في مشروعٍ شخصي لفترةٍ طويلة، مثل شهور أو سنوات، فأنتَ تتوقَّعُ لهذا العمل أن يخرجَ مثالياً، بصُورة الكمال، وأقلُّ من ذلك لا يُمكن أن يرضيك. ولكن الكمال مُستحيل، ولذلك فإنَّك ستشعرُ دائماً بالإحباط، وحتى لو حاولَ البعضُ إقناعك بغير ذلك، فإنَّ مشاعرَك – في أعماق ذاتك – ستظلّ كما هيَ، وستجدُ الأمر مُقرفاً للغاية.

وأخيراً، الشّعور بالإنجاز هو الأمرُ الإيجابي الذي لا بُدّ منه. كوني استثمرتُ أياماً طويلةً من حياتي في هذا الكتاب، ولأنِّي أراهُ الآن مُخرجاً ومُرتَّباً في صفحاتٍ جميلة وأنيقة، فلا بُدَّ أن أشعر بشيءٍ من الاعتزاز في داخلي. وهذا يُخفّف من إحباط عدم الكمال، ولو أنَّه غير كافٍ لتعويضه. أيضاً، الأيام الأخيرة قبلَ صدور العمل تكونُ مُثيرة للتوتّر والترقّب بدرجةٍ مُعتَبرة، ولذا، لا بُدَّ من القول أني أحسُّ وكأنَّ عبئاً كبيراً أزُيحَ عن كاهلي، أو أنَّ مهمة غادرت جدول أعمالي بعد أن مكثت فيه لوقتٍ طويل جداً، وهذا أمرٌ جيّد.. فهو يعني أني أتقدَّمُ بتحقيق أهدافي طويلة الأمد!

اقرأهُ الآن!

الكتابُ متاحٌ مجاناً على موقع كتب عربيّة حرّة، يُمكنك قراءتهُ مباشرةً من خلال الضَّغط هُنا، ولا تنسى تقييمهُ على غودريدز عند انتهائك!

%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af-2

[قراءةٌ في كتاب] نظرية الألعاب


عندما نشرتُ تدوينتي السابقة التي تحدَّثتُ فيها عن حصيلتي من معرض الكتاب الدولي في عمّان (الأردن)، لم أكُن قد زرت المعرض سوى مرّة واحدة، وقد ذهبت بعدها عدّة مرات لأحصلَ لنفسي على كتبٍ أخرى، وأروع ما جئتُ به من تلك الزيارات كان هذا الكتاب عن نظرية الألعاب. كنت أسمع عن هذه النظرية من أخي، الذي درس علم الاقتصاد في ماليزيا، مُنذ سنوات كثيرة، وانتباتني رغبة شديدة بأن أتعرَّفَ عليها أكثر، وكانت هذه أول مرة أُقابل فيها كتاباً مُخصَّصاً للحديث عنها.

ليسَ ذلك فحسب، بل هذا الكتاب هو جزءٌ من سلسلة جامعة أكسفُورد المشهورة المُسمّاة “مُقدّمات قصيرة جداً“، وهي مجموعة من 425 كتاباً صُمّمت لتُقدّم للقراء نبذاتٍ مُختصرة وسهلة عن كلّ المواضيع الأساسية في العالم، وكتبها كُلّها خبراءٌ ذوُو خبرة طويلة جداً في مجالاتهم. ومُؤلّف هذا الكتاب تحديداً اسمُه كين بينمور، وهو أحدُ مُؤسّسي نظرية الألعاب الحديثة، وصاحبُ نظرية اقتصادية مُهمّة تسمى نظريّة المساومة. لمن يُريد، الكتاب متاحٌ مجاناً بترجمته العربيّة الكاملة على موقع مؤسّسة هنداوي.

الألعاب.png
غلاف الكتاب.

ما هي نظريّة الألعاب؟

الفكرةُ من نظرية الألعاب تتلخَّصُ بسهولة جديدة في اسمها، فهدف هذه النظرية هو تفسير آلية عمل الألعاب، في الغالب تكونُ ألعاباً يُشارك بها شخصان فقط (لتبسيط أهداف كلّ لاعب ونتائج أفعاله)، وأحياناً تكون أعقد من ذلك. قد يبدو الأمرُ غريباً، لكن نظرية الألعاب قادرةٌ على تفسير سلوكيّات الناس عندما يلعبون أيّ لعبة جماعية عادية: سواء كانت الشطرنج، أو المونوبولي، أو أيّ واحدةٍ من ألعاب البطاقات، فهذه كُلّها تدخلُ في مجال دراسة نظرية الألعاب.

لكن هذه الألعاب ليست لها وظيفة إلا قضاء وقت الفراغ والاستمتاع، ولذا – بطبيعة الحال – لا يُوجد أشخاصٌ كثيرون مُهتمّون بصرفِ خبرتهم المهنية في دراستها وبحثها. ولذلك، فإنَّ استخدام هذه النظرية لا يكونُ عادةً في “الألعاب” فعلاً، وإنَّما في مسائل بالحياة الواقعية تسيرُ بطريقة مُشابهة لتلكَ الألعاب، ففي الأساس، أيّ مُنافسة يُشارك بها عدة أشخاصٍ يُمكن النظر إليها على أنَّها لُعبة بطريقة أو بأخرى.

جميع التطبيقات المُهمّة لنظرية الألعاب هي في مجال الاقتصاد، والسَّببُ في ذلك هو أن هذه النظرية قادرةٌ على تفسير رُدود أفعال الناس، عندما يتعاملون مع المال، بدقّة تكون مُذهلة أحياناً. فعلى سبيل المثال، عندما تُريد شركة عملاقة إجراء مزادٍ علنيّ على أسهمها، سوف تُوظّف خبيراً في نظريّة الألعاب ليُقدّم لها نصائح واستشاراتٍ عن كيفيّة إدارة ذلك المزاد، وتُساعد نصائح هؤلاء الخبراء أحياناً على جنيِ مليارات الدولارات في الصّفقة الواحدة.

كيف تعملُ النظرية؟

يعتقدُ خبراء الاقتصاد أنَّ مُحاولة تفسير أسباب ردود أفعال الناس في المواقف التي تدرسُها نظرية الألعاب قد يكونُ أمراً مُعقَّداً وشائكاً جداً، ولذا، فإن هذه النظرية لا تُقحم نفسها في الأسباب القائمة وراء كلّ قرارٍ يتَّخذه الناس في مثل هذه المواقف، بل هي تعملُ على وصف تلك القرارات وتحديد أرجحيَّتها فحسبْ، بناءً على التجارب والإحصاءات العمليّة.

chess
تستطيع نظرية الألعاب تفسير حركات لاعبي الشطرنج.. لكن يندر استعمالها بهذا المجال، لتعقيده الشديد وأهميته القليلة.

ومع أنَّك قد تعتقدُ أن اختيارات الناس يجبُ أن تكون قائمةً على تفضيلاتهم وطريقة تفكيرهم الشخصيّة، إلا أنَّ رُدود أفعال الناس – في عددٍ كبير جداً من الألعاب – تكونُ مُتوقَّعة جداً ومُتفقاً عليها بين جميع الناس. ففي مُعظم الألعاب التي تدرسُها هذه النظرية تكونُ هناك منافسة بين مجموعة من الأشخاص، ويُحاول كلّ شخصٍ فيها زيادة مكاسبه على حساب خُصومه، وعندَ تكرار اللعبة عدداً مُعيَّناً من المرات، وعلى افتراض أن جميع اللاعبين عاقلِون، فإنَّهم عادةً ما يتوصَّلُون إلى نفس النوع من القرارات بالضَّبْط.

تعتمدُ معظم الفرضيّات الموضوعة في نظرية الألعاب على مُفارقاتٍ تخيّلية، يلعبُ فيها شخصان اسمُهما “أليس” و”بوب” الكثير من الألعاب البسيطة التي تُحاول وصفَ المواقف الواقعية التي تحدثُ في عالم الاقتصاد. فمثلاً، في واحدةٍ تُسمّى “مُفارقة السجنين” تُلقي الشرطة القبضَ على أليس وبوب لارتكابهما جريمة، والشرطة مُتأكّدة من أنهما الفاعلان، لكن لا يُوجد دليل، لذا تُطالب كلُّ واحد منهُما – على حدة – بالاعتراف بالجريمة وإدانة صديقه. لو خانت أليس بوب فسوفَ يُطلَق سراحها على الفور بينما يتلقّى هو كامل عُقوبته، لكن لو خانها هو أيضاً (في الوقتِ ذاته)، فسوفَ يتلقّى الاثنان عُقوبة كاملة، وأما لو التزم الاثنان الصَّمت، فسوف يتلقَّى الاثنان رُبْع فترة العقوبة فقط. فماذا سيختارُ أليس وبوب؟

الأفكارُ الأساسيّة

أحدُ أكبر المُساهمين الحديثين في نظريّة الألعاب الأمريكي جون ناش، وهو نفسُه عالم الرياضيات الشهير الذي صُوِّرت قصة حياته الحزينة في فلم Beautiful Mind الصّادر عام 2001. لاحظَ ناش أنَّه عندما يلتزمُ اللاعبون في ألعابٍ مُعيّنة باتخاذ نفسِ القرارات مراراً وتكراراً، فإنَّ خُصومهم سوف يلتزمُون أيضاً بإجاباتٍ ثابتة عليها، لأنَّها تكونُ أفضل خيارٍ مُمكنٍ لهُم رداً على خيار غريمهم. تُسمّى هذه الحالة توازن ناش، وهي حالةٌ سوفَ يصلُ إليها جميع اللاعبين، عاجلاً أو آجلاً، عندما يكتسبُون بعض الخبرة في أيّ لعبة.

فعلى سبيل المثال، في الحالة المذكُورة أعلاه، تعلم أليس أنَّ أفضل خيارٍ لها في حالة  ما خانها بوب هو أن تخونُه بالمِثْل، فبتلك الطريقة سوفَ تنتقمُ منه لجعلها تتلقّى العُقوبة، ولكن إذ علمت أن بوب لم يخُنها، فإنَّ أفضلَ خيار لها هو أيضاً أن تخونُه، فذلك سوفَ يسمحُ بإطلاق سراحها على الفَوْر. هذا يعني أنَّ أفضل ردّ لأليس على جميع خيارات بوب هو الخيانة، وأفضلُ ردّ لبُوب على جميع خيارات أليس هو أيضاً الخيانة، وبالتالي فإنَّ حالة توازن ناش لـ”مُعضلة السجينين” هي الخيانة المُتبادَلة.

warsha4-1
يتم شرح كل معضلات نظرية الألعاب بجداول مثل هذا. كل خانة توضح عوائد الطرفين من أحد القرارات، وفي هذه الحالة يقع توازن ناش لمعضلة السجنين في الزاوية العليا اليسرى، حيث يحكم على كلّ من السجنين بثلاث سنوات. ومع أنه توجد حلول أنسبُ بالنسبة إليهما (مثل أن يحكم كلّ منهما بسنتين اثنتين)، إلا أنه من شبه المستحيل على لاعبين عاقلين الاتفاق على حلّ آخر.

ليسَ بالضّرورة أن يكون هناك توازن ناش واحدٌ لكلّ لعبة في العالم، فبعضُ الألعاب تكون مُعقَّدة بحيث تتفاوتُ فيها اختيارات اللاعبين، لكن مُعضلة السّجينين هي واحدةٌ من الحالات الواضحة.

تُثبت تجارب المحاكاة هذه النَّتيجة، فقد حاولت بعضُ التجارب العلميّة وضعَ أشخاصٍ في مُعضلة السَّجينين وتسجيلَ استجاباتهم لعَرْض خيانة أصدقائهم. في البداية، كان الأشخاصُ الخاضعون للتجارب يختارُون التزام الصَّمت لـ50% من المرّات تقريباً، لكن، عندما تمَّ تكرارُ التجربة عليهم عِدّة مرات بحيثُ يكتسبون خبرة في التعامُل معها، أصبحُوا يختارون الخيانة في أكثر من 90% من التجارب.

الاختيار العشوائيّ

في نظريَّة الألعاب يُحاول اللاعبون العقلانيون دائماً الوُصول إلى الاختيارات التي تزيدُ مكاسبهم لأقصى حدّ مُمكن، لكن في بعضِ الحالات، يبدُو أنَّ الطريقة الوحيدة للحُصول على أكبر مكسبٍ مُمكن هي الاختيار بعشوائيَّة تامة، لأنَّ للعبة قواعدَ عشوائية، أو لأنَّ اللاعبَ يحتاجُ لتضليل خُصومه بحيث يُوهمهم بأنَّه يختارُ على أساس عشوائي.

إحدى النماذج النظريّة لهذه الألعاب لُعبة “مُطابقة العملات”، ففي هذه اللعبة لدى أليس وبوب عملتان معدنيَّتان، ويختارُ كلّ منهما أحد الجانبين: إما صُورة أو كتابة. لو كانت العُملتان مُتطابقتان، تفوز أليس. لو كانت العُملتان مُتغايرتين (واحدة كتابة، والأخرى صُورة) فسوفَ يفُوز بوب. فما الذي على أليس أن تختارهُ للفوز؟

قد تعتقدُ أن الإجابة هي أنَّ عليها الاختيارَ بطريقةٍ عشوائيّة، لكنَّ تلك ليست الإجابة الصحيحة تماماً. حسبَ نظريّة الألعاب، فالطريقةُ المثلى التي على أليس اللَّعبُ بها هي أن تستعملَ جميع خياراتها المُمكنة بنفس المقدار، وبالتالي، يجبُ أن تختار “صُورة” لـ50% من المرّات، و”كتابة” في الـ50% الأخرى، وبالتالي سوفَ تكسبُ نصف الجولات بالضَّبْط، وتخسرُ نصفها بالضَّبْط، وهذا هو أفضلُ مكسبٍ يُمكنها الوصول إليه ضمن الظروف المُتوافرة لها. وتُسمّى هذه الطريقة في اتّخاذ القرار الاستراتيجية المُختلطة (Mixed Strategy).

السَّعيُ للتوازُن

لكن، ماذا لو كان أليس وبوب يلعان لُعبةً أكثر تعقيداً، مثل “حجرة ورقة مقص”؟

وصفَ مُؤسّس علم نظرية الألعاب والعالم الحاصلُ على جائزة نوبل في الاقتصاد “جون فون نيومان” الطريقة التي تتغيَّرُ بها استراتيجيات بوب وأليس استجابةً لبعضِهما، وذلك في نظريّته المُسمّاة نظرية أدنى الأقصى (Minimax Theory). وبحسب هذه النظرية، يسعَى جميعُ اللاعبين المُتنافسين إلى تقليل خسائرهم باستمرارٍ بتغيير استراتيجيتهم، وفقاً لما يختارُهُ خُصومهم.

1111-49
هذه المقالة الجيدة من موقع “أنا أصدق بالعلم” تتحدث عن توازن ناش في لعبة حجرة ورقة مقص.

فلو كان بوب يختارُ مقص في 70% من جولاته، فمن المنطقيّ أن أليس سترغبُ أيضاً باختيار الحجر في نفس العدد من المرّات، وعندما تفعلُ ذلك، سيُلاحظ بوب أنه أصبح يخسرُ أكثر، ولذلك سيُغيّر استراتيجيته بحيثُ يختار الورقة أكثر، لأنه تغلبُ الحجر. تتنبَّاُ نظرية الألعاب بأن أليس وبوب، طالما أنَّهما لاعبان عاقلان، سوف يستمرَّان بتغيير خياراتهما حتى يصلا إلى نُقطة تجاذب، وهي مرحلة من التوازن، يتفقُ فيها اللاعبان على تثبيت استراتيجياتهما لأنَّهما وصلا إلى النّقطة التي يحصدان عندها أعلى مكسب وأقل خسارة مُمكنة بحُكم الظروف، وبالتالي لم تعُد هناك حاجة لاختلاق استراتيجية جديدة.

ولكلّ لُعبة “حوض تجاذب” خاصّ بها تستقرُّ فيه عند استراتيجيات مُحدّدة، ويُفترض في لعبة “حجرة ورقة مقص” أن يكون حوض التجاذب عند النقطة التي يختارُ فيها بوب وأليس الحجر لثُلْث الوقت، والمقص للثلث، والورقة للثلث.

الخداع والتَّضليل

لكنَّ الحالات التي سبقَ ذكرها هي حالات بسيطة، ليست لدى اللاعبين فيها أيُّ معلومات عن خُضومهم. وفي بعضِ الألعاب يُمكن أن يتَّبع اللاعبون الاستراتيجية المُختلطة (أي العشوائية) عن عمد، ويكونُ هدفهم من ذلك هو تضليل مُنافسيهم بحيث لا يُدركون السَّبب في اتخاذهم هذا القرار أو ذاك. وأوضحُ الأمثلة على هذا التضليل هي ألعاب المُراهنة، مثل البُوكر.

في لُعبة البوكر يحملُ كلّ لاعبٍ في يده مجموعةً من البطاقات،ولا يستطيعُ رؤية بطاقات اللاعبين الآخرين. على مدارِ اللعبة يستطيعُ اللاعبون المُراهنة بمبالغ مُعاينة، وعندما يضعُ أحد مبلغاً مُعيّناً للرهان، فإن جميع خصومه مجبَرُون على اتخاذ واحدٍ من خيارَيْن: إما أن يراهنوا بنفس المبلغ، أو ينسحبونَ من اللغبة. لا يستطيع اللاعب المُنسحب كسب أيّ نقود بعد خُروجه من اللعبة، مهما كانت بطاقاته جيّدة في الحقيقة. ولو بقيَ لاعبٌ واحد فقط لم يُعلن انسحابه، فإنه يحصلُ على النقود التي راهن بها جميعُ خصومه، حتى ولو كانت بطاقاته سيّئة جداً. أما لو أصرَّ أكثرُ من شخصٍ على البقاء إلى نهاية اللعبة فيتمُّ كشف البطاقات، ويفوزُ صاحب المجموعة الأفضل.

الآن، عندما تكونُ لديك مجموعة جيّدة من البطاقات فإنَّك تُريد لخصومك أن يُراهنوا بنقودٍ أكثر، لأنك تعلمُ أنك سوف تكسبُها كلها عندما تفُوز. لكن بعد خبرةٍ قصيرة في لغب البوكر، سوفَ يعلمُ الجميع – عندما تُراهن بمبلغٍ كبير – أنَّ لديك بطاقاتٍ جيّدة جداً، وبالتالي سيُعلنون انسحابهم على الفَوْر، قبل أن يُراهنوا بنُقودهم.

World Series of Poker Main Event
لعبة البوكر مفيدة جداً لاختبار جوانب معينة من نظرية الألعاب.

لهذا السَّببِ يعمدُ لاعبو البوكر الخُبراء إلى تضليل خصومهم بطُرُقٍ مُعقّدة.

لكي ينجحَ هذا التضليل، لا يُريد اللاعب الخبير خداع خُصومه ودفعهم للانسحاب عندما تكون أوراقه سيّئة، فذلك رهانٌ ضعيف، بل هو يُريد إغرائهم بالرهان بمبالغ كبيرة عندما تكونُ أوراقه جيّدة. وبالضّرورة، يعني ذلك أنَّه سوف يضطر للاستمرار بالرهان في بعض الأوقات، حتى لو كانت أوراقه سيئة، بل رُبّما تكونُ عليه المزايدة أيضاً، وبهذه الطريقة، سيُصبح من الصّعب على الآخرين تمييزُ متى يُراهن هذا اللاعب بسبب أوراقٍ قوية، ومتى يسعى لتضليلهم فحسب.

الأعرافُ الجماعية

تخلصُ نظرية الألعاب إلى أن البشر العقلانيين يميلُون دائماً للقرارات التي تصبُّ بمصلحتهم الخاصة آنياً، حتى ولو كانت، على الأمد الطويل، سوفَ تُضرّ بهم وبباقي مُجتمعهم، ومن مثل ذلك مُفارقة ملعب كرة القدم.

فعندما يُشاهد جمهورٌ من الناس مُباراة كرة قدمٍ من على مُدرّج، سوف تكون الرؤية صعبة عليهم قليلاً، وقد يُفكّر أحدهم بأن يقف، لأنَّ الوُقوف يعني أنه سوف يرى ما يحدثُ بوضوحٍ أكبر. ولكن، عندما يفعل ذلك سوف يضطر من حوله للوقوف أيضاً، لأنه يحجبُ عليهم المشهد، وبعد فترة، يُمكن أن ينتيه الأمرُ بجميع من في الملعب بالمٌشاهدة واقفين. وعندها سوف يكون الجميع قد تكبَّد خسارة، لأنهم فقدوا راحة الجُلوس، دون الحصول على أيّ مكسب.

واعتقدَ بعضُ الفلاسفة أن من العقلاني في هذه الحالة أن يتصرَّف الناس وفقاً لمصلحة المُجتمع، لكن على أرض الواقع، تُظهر التجارب أن الإنسان يميلُ للسلوك الأناني، وبالتالي يكونُ دائماً من الصَّعب الحفاظُ على الأعراف العامة التي تُساعد المجتمع. وبالطبع فإنَّ هذا ليس حُكماً مطلقاً، لكنه النتيجة الراجحة لمُعظم الحالات.

26985365016_bf671ba105_b
لو وقف صف واحد من هؤلاء المتفرجين سيضطر كل من ورائهم لمشاهدة المباراة واقفين. ستتألم أرجل الجميع من الوقوف، بينما لن يجني أحد أي مكسب.

الإنصاف

نظرية الألعاب تُقدّم الإنسان على أنه مخلوقٌ أناني جداً، فنظرياً، قد نفترضُ أن جميع اللاعبين في هذه النظرية يميلُون للاختيارات التي تُعطيهم أعلى المكاسب، ولا يُظهرون أيّ رغبة ببذل الخير، وبالتالي فإنَّ التعاونَ يُصبح نتيجة غير مُمكنة في تفاعلات الناس مع بعضهم، وذلك بالتأكيد غيرُ صحيح.

وقد تعتقدُ أننا بصدد الحديث عن المشاعر والرّغبة بالإيثار والعطاء التي تُغيّر سلوك الناس في المُفارقات التي سبق وأن ذكرناها، لكنَّ ذلك ليس تماماً مَوضوعاً لنظريّة الألعاب. تُوجد عوامل إضافية في عالم الواقع تجعُلُه مختلفاً – من ناحية فعليّة – عن نماذج الألعاب النظرية أعلاه، ومن أهمِّ هذه العوامل التكراريّة.

عندما يخوضُ الناس نماذج من نظرية الألعاب في الحياة، مثل تعامُلهم مع أحد البائعين أو إجرائهم لصفقةٍ تجارية، فهُم مضطرُّون لأن يأخذوا بالحُسبان أن هذه اللعبة لن تحدث مرّة واحدة فحسب، بل ستتكرّر عدداً كبيراً جداً من المرات. فالتاجران اللّذان يُبرمَان صفقة لا يخدعان بعضهُما في العادة، وليس ذلك بالضرورة لأن لديهما أخلاقاً حسنة جداً، لكن لأنَّهما يحتاجان لبناء علاقة ثقةٍ طويلة الأمد بينهُما. فالتاجر الذي يغشّ يكتسب سُمعة سيئة، والسمعة السيئة تعني أن التجار الآخرين لن يرغبوا بالتعامل معه، وبعد بضع تكراراتٍ لن يجدَ شخصاً في المدينة يبيعُه بضاعته. وبما أنَّ مُعظم العلاقات في الواقع تكونُ ذات نهاية مفتوحة، أي لا يُوجد حدٌّ مُعيّن لانتهائها، فإنَّ البشرَ يميلُون للالتزام بالقواعد التي تمنحُهم سمعة جيّدة.

ومن العوامل الأساسية التي تترتَّبُ على التكرار مبدأ المُعاملة بالمثل، ومن ذلك الرّغبة بالانتقام والعقاب، وهي من العواقب تجعل الناس يميلُون – في الكثير من الأحيان – للتعامُل بإنصاف، حتى لو لم يرغبوا تماماً بذلك. ويُمكن تلخيصُ المعاملة بالمثل بأنَّ “العين بالعين، والسن بالسن”، فكلُّ مرة يتخذه فيها لاعبٌ قراراً أنانياً، سوفَ يُعاقَب بالمثل. وتُثبت التجارب أنَّ الأشخاص يُغيّرون اختياراتهم دائماً استجابة لما يفعله خصومهم، لكنَّهم يُعطونهم مجالاً للتراجع، فلو تخلّى أحدُ اللاعبين عن أنانيته، سُرعَان ما سوف يتخلّى عنها الآخرُ أيضاً.

والأشخاصُ في الحياة الواقعية لا يميلون لقبول الصفقات التي تُعطيهم مكاسب غير عادلة، حتى لو كانوا سوف يتكبَّدُون خسارةً أكبر بسبب رفضها، فالكبرياء هي واحدةٌ من العوامل الأساسية التي تُؤثر في سلوك البشر، وتختبرُ ذلك عِدّة تجارب اختبرت إحدى تجارب نظريّة الألعاب ظاهرة الكبرياء في ما يُسمّى “لعبة الإنذار النهائي“.

في هذه اللعبة يحصلُ أليس وبوب على مبلغٍ من المال، لكن يُوجد شرط: يجب على أليس أن تختار كيفيّة تقسيم المال، بأيّ طريقة تشاؤها، ولدى بوب خياران، إما رفضُ عرضها (وعندها لن يحصل هو ولا أليس على أيّ قرش)، أو يقبله من دون نقاش. وفي حال عدم وُجود الكبرياء فسيكونُ من العقلاني لبوب أن يقبل أي عرضٍ يحصلُ عليه، لأن مكسبه سوف يكون أكبرُ دائماً، فالرَّفضُ يعني عدم حصوله على أي شيء. وأما القبول فسيكون مكسباً، حتى ولو بمقدار قرشٍ واحد.

لكن التجارب المعمليَّة أظهرت أن الناس لا يقبلُون التقسيمات غير العادلة في الغالب، حتى ولو كانت بفارقٍ بسيط، مثل 30 لـ70% أو من قبيل ذلك. وفي الحقيقة، فإنَّ مُعظم الناس الخاضعين للتجربة كانوا يُقسّمون المال بالتساوي تماماً، رغم أنهم يستطيعون – نظرياً – إبرام اتفاق غير عادل.

sothebys
الإعداد للمزادات العلنية قد يكون عملية دقيقة ومهمة جداً. يظهر بالصورة عددٌ من الموظفين الذين يتصلون بعملاء مُهمين على الهاتف، لتسجيل إسهاماتهم بالمزاد على لوحة “الصرخة” المشهورة.

المزادات:

إحدى أكبر التطبيقات التجاريّة لنظرية الألعاب هي المزادات، وليس المقصودُ هنا المزايدة في سوقٍ تجاري على تحفة سعرُها مائة دولار، بل المزادات العملاقة التي تتنافسُ فيها الشركات على خدماتٍ تصلُ قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات، ففي مثل هذه الحالة، قد يكونُ من المجدي جداً توظيفُ خبير في نظرية الألعاب للإشراف على سير الأمور.

توجد عدة أنواع مشهورة عالمياً من المزادات، من أهمّها المزادات الإنكليزية، التي تظهر في الصورة أعلاه بحدث تستضيفه مؤسسة سوثبيز البريطانية الشهيرة جداً. تبدأ هذه المزادات من سعرٍ قليل، ويستمر الحاضرون برفع مزايداتهم حتى لا يرغب أي شخصٍ برفع السعر أكثر، وعندها يعلن عن إقفال المزاد وفوز صاحب آخر سعر، ويُخصَّص هذا النوع لبيع التحف الفنية والمقتنيات الثمينة. وأما المزادات الهولندية فهي تسير بطريقة مُعاكسة: إذ تبدأ المزايدة من أكبر سعر ومن ثم يتم تخفيضه تدريجياً، ويفُوز أول من يعرض رغبته بالشراء عند آخر سعر تمَّ التوقف فيه. وتتسم هذه المزادات بالمُخاطرة في التأخر بالشراء، وتستخدم لبيع سلعٍ تافهة مثل الحيوانات الأليفة والأزهار.

وأما النوع الذي تميلُ الحكومات لاستخدامه في بيع سلع مهمة للشركات العملاقة، فهو مزاد المظاريف أو مزاد فيكري (نسبة إلى مُخترعه). في هذا المزاد تعرض كلّ شركة – بسريّة تامة – عن السعر الذي ترغبُ بتقديمه للحكومة السلعة المعروضة، التي قد تكون أرضاً مهمة أو خطّ اتصالات أو شيئاً مث لذلك، وتفوزُ الشركة التي عرضت أعلى مبلغ. لكن، الأمر الاستثنائي في هذا النوع من المزادات أن الشركة الفائزة لن تدفع لقاء الخدمة السعر الذي عرضته، بل ثاني أعلى سعرٍ عرضته إحدى الشركات الأخرى. قد تبدو هذه القاعدة غريبة جداً وغير منطقية، لكن، على أرض الواقع، هي تساعد على زيادة أرباح المزاد بتشجيع الشركات على عرض أسعار أكبر، متأمّلة أنها لن تضطرَّ لدفع كامل المبلغ الذي عرضته.

p_df_1
المؤتمر العالمي السابع والعشرين لنظرية الألعاب (سنة 2016)، يُقام في مدينة نيويورك كلّ عام.

هل أنصحك بقراءة هذا الكتاب؟

كان هذا الكتاب مليئاً بالأفكار المُمتعة والنظريات المُشوقة، لكنه – أيضاً – كان واحداً من أصعب الكتب التي قرأتها في حياتي. يفترض أن الترجمة جيّدة، لكنها حرفية كثيراً، وصياغة وتراكيب الجمل في الكتاب معقدة جداً، بحيث أن محاولة فهمه تصبح مرهقة جدياً في بعض الأحيان. عملياً، يمكنني القول أني أعدت قراءة كل صفحة من الكتاب مرَّتين أو ثلاثة قبل أن أنهيه، لأن فهمه كان عسيراً جداً. لهذا السبب، لن أنصحك بقراءة الكتاب إلا لو كنت مهتماً فعلاً بالخوض في تفاصيل الموضوع، وعدا عن ذلك، فأعتقدُ أن من الأفضل لك الاكتفاء بقراءة مُلخّصات ومقالات مختصرة عنه، مثل هذه التدوينة!

حصيلتي من معرض الكتاب في عمَّان


زرتُ البارحة أوّل معرض كتابٍ لي مُنذ سنتين تقريباً، وهي مُدّة طويلة قليلاً بالنسبة لي لأني عادةً ما أذهب لمعارض الكتب بكثرة.. فقد ذهبتُ إليها في ثلاث عواصم عربية حتى الآن.

كانت التّجربة مُشرقة من بعض النواحي ومُحبطة من أخرى. كالعادة كانت “الدار العربية للعلوم” أفضلَ مكانٍ في المعرض، ليس لسببٍ إلا لأنّي قارئ رواياتٍ بالدرجة الأولى، وهُم دائماً يُوفّرون الكثيرَ منها بطبعاتٍ وترجماتٍ ممتازة جداً، آه… والسعر لديهم يتناسبُ مع الجودة أيضاً، من حيثُ الارتفاع بالطّبع.

من جهةٍ أخرى، حصلت على الفُرصة لأكتشف دار نشرٍ مصرية لم أسمَع بها من قبل، وهي “كلمات هنداوي” (يبدو أنّها مشهورة، لا أعرفُ لماذا لم أصادفها سابقاً)، وهي على الأرجح الدار الوحيدةُ في المعرض كلّه التي تتخصَّصُ بترجمة الكتب العلمية. وهنا لا أعني الكتب المُبسّطة من نوع “لماذا يُسخّن المايكرويف أسرع من الفرن؟”، بل الكتب التي يكتبُها علماء مُتخصّصون، من أمثال ستيفن هوكنغ ونيل تايسون ومن سواهُم. الأسعار لديهم تناسبُ الجودة أيضاً.. لكني لم أفوّت على نفسي فُرصة الحصول على بضعة أشياءٍ من عندهم.

photo_2016-10-03_17-46-43

أخيراً كان جناحُ المكتبة الأهلية ممتازاً جداً هذا العام. منشوراتهم بحدّ ذاتها ليست كثيرة، لكنَّهم مُشتركون في الجناح مع عدد كبيرٍ من دور النشر اللبنانية التي لها الكثيرُ من الكتب الرائعة، فقد وجدتُ لديهم الكثير من الروايات الروسية والشرقية بطبعاتٍ جيّدة جداً، وأيضاً بعض الكُتب الفلسفية والعلمية النادرة، مثل كتاب “النظرية النسبية” من تأليف آلبرت آينشتاين نفسِه، وقد عرفتُ لاحقاً أنَ لديهم كتباً مُترجمة لستيفن هوكنغ، لكن أحبطني جداً أني لم أرَها عندما كنتُ هناك.

14520528_1282530501810166_2645265789159081037_n

 

عدا عن ذلك، كان المعرضُ، مثله مثل غيره، مليئاً بالمنشورات الرّديئة والطبعات الكارثية التي لا داعي للحديثِ عنها. كانت هُناك كثرةٌ ملفتة بالأجنحة المُوجّهة للأطفال، كما صادفتُ عدداً لا بأسَ به من المكتبات المُتخصّصة باللغة الإنكليزية، وبعضُ هذه كانت لديها كتبٌ ممتازة جداً وددتُ اقتنائها، مثلَ “Guns, Germs, and Steel” لجارد دياموند والذي ساورتني رغبة جامحة بشرائه، لكنَّه طويلٌ جداً كي أقرئه بلغُةٍ غير لغتي الأم.

على العُموم، فيما يلي قائمة مُشترياتي:

photo_2016-10-03_16-52-33

كتبٌ علميّة مُبسَّطة، لكن ليست للأطفال أو الناشئين بل للبالغين. الطّباعة فاخرةٌ للغاية، والمواضيعُ شيّقة، والإخراج رائع. يبدو أنَّها بالأصلِ موسوعة فرنسيّة: http://www.editions-larousse.fr/collections-term/1342/4

photo_2016-10-03_16-52-30

 

من أشهرِ كتب الحرب في تاريخ البشرية، ألَّفه جنرالٌ صيني قبل ألفي عام. وددتُ اقتنائه مُنذ فترة لكن معظم الطبعات التي صادفتُها كانت كارثية.

photo_2016-10-03_16-52-26

لفتَت هذه الروايات نظري كثيراً، بعد تصفّحها بسُرعة شعرت أن قرائتها ستكونُ تجربة فريدةً وممتعةً جداً، فهي غير اعتيادية بالمرّة. هاتان الروايتان ليستا سوى أوّل جُزئين من حوالي 40 جزءٍ آخر يروون قصّة مجموعة من عشائر القطط التي تخوضُ حروباً وصراعات شرسة بين بعضها البَعْض. للاطّلاع: https://en.wikipedia.org/wiki/Warriors_(novel_series)

photo_2016-10-03_16-52-17

لا أعرفُ الكثير عن هاتين القصّتين، لكن سبب شرائي لهُما أن كليهما من مُؤلّفَيْن حاصلين على جوائز نوبل في الأدب، وإحدى أهدافي في الحياة أن أقرأ لأكبرِ عددٍ ممكنٍ من مثل هؤلاء الأشخاص. الأرضُ الطيبة (The Good Earth) تعودُ لكاتبة أمريكية قضت مُعظم حياتها في الصّين، وأما العاصمة القديمة (The Old Capital) فهي قصّة اجتماعية تدورُ أحداثها في اليابان.

photo_2016-10-03_16-52-12

من أمَّهات الكتب التي وضعها الفلاسفة القدماء، جلبتُه من باب الاطلاع بالدّرجة الأولى.

photo_2016-10-03_16-52-08

كتابٌ حديث عن نظريّة التطور، يبدو جيّداً للغاية، أرجو أن يوسّع اطلاعي ومعلوماتي عن النظرية، خُصوصاً أنَّ الكثيرين يَميلون لمناقشتي فيها.

photo_2016-10-03_16-51-59

الخاتمة للأفضل… لم أسمَع بوجود هذا الكتاب سوى حديثاً، وكانت سعادتي غامرةً بأن وجدتُّه مترجماً. إنَّ مُبتكر النظرية النسبية، ألبرت آينشتاين، هوَ نفسُه صاحب هذا الكتاب، وقد ألَّفهُ خصيصاً كمُقدّمة مُبسّطة تساعد الأشخاص غير المُتخصّصين والمساكين – من أمثالي – على استيعاب نظريّته المبهرة. للاطلاع:https://en.wikipedia.org/wiki/Relativity:_The_Special_and_the_General_Theory

“قصصٌ ممتعةٌ من كتاب “أفكار العِلْم العَظيمة


photo_2016-09-20_18-56-51

قرأتُ اليوم كتاب “أفكار العلم العظيمة” لإسحق عظيموف، وقد كان حقيقةً مُفيداً ومُلهماً جداً، فمعَ أنَّني كانت لديَّ فكرة عامَّة مُسبقة عن أغلب ما فيه، إلا أنَّه أعطاني تفاصيلاً جوهريَّة عن بعض الأشياء ومنظوراً جديداً تماماً عن العديد من العُلماء المشهُورين وأهميَّة اكتشافاتهم في تغيير مسيرة العِلْم، ولذا سأشاركُ معكم بعضَها هُنا.

هذا الكتابُ صغير (حوالي 150 صفحة) لكنَّه عظيمٌ جداً، فهو يُقدِّم شُروحاتٍ مُختصرة لأهم الاكتشافات التي حقَّقها العلماء عبر التاريخ، بدءاً من الإغريق القُدماء، مُنذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، وحتى العلماء الأوروبيون الجُدد خلال القُرون الخمسة الأخيرة. يُحاول الكتاب التركيز على أهمِّ النظريّات التي أدَّت إلى قفزاتٍ نوعيَّة في العِلْم في زمنها. التَّرجمة أيضاً ممتازةٌ جداً، فقد جاءت ضمنَ جزءٍ من مشروع الألف كتاب الثاني المصريّ الذي نُشر في سنة 1997، وهو في الحقيقة واحدٌ من أفضل مشاريع الترجمة العربيَّة على الإطلاق، والتي أتمنَّى لو يتمُّ تكرارُها مرَّة أخرى الآن.

كيف ولد العِلْم؟

قد تأخذُ هذا الأمر على محملٍ بديهيّ، “لطالما كان العِلم موجوداً”، إلا أنَّ ذلك ليسَ صحيحاً تماماً. لقد درس الإنسانُ العلم بطُرُقٍ بسيطة مُنذ عصورٍ غابرة، وقد وضعَ العُلماء الإغريق والهنود والصينيون والعرب مئات النظريّات العظيمة في الرياضيات والفيزياء والفلك على مرّ آلاف السّنين، لكن، ألم تتساءَل مرَّة لماذا لم تُؤدِّ كل إنجازاتِهم العلميَّة إلا لجُزءٍ بسيطٍ من النَّهضة التي حدثت في أوروبا بدءاً من القرن السّادس عشر؟ لا بُدَّ أن ثمَّة فرقاً ما وقعَ قبل خمسمائة سنة، أدَّى إلى تلك الثورة العلميَّة والفكريَّة الكُبرى.

كان هذا الفرق هو التحوُّل من “النظرية” إلى “التطبيق”. لقد وضعَ الإغريق – مثلاً – الكثير من النظريَّات العلمية، التي أصابَ بعضُها بدقَّة، مثل قوانينهم في الرياضيات، بينما كانت بعضُها أبعد ما تكونُ عن الحقيقة، مثل فكرتهم بأنَّ كلَّ مادَّة في العالم مُكوَّنة من خليطٍ من خمسة عناصر غريبة (النار والماء والتراب والهواء والمعدن).

pftim19_01

قد يكونُ أكبر إنجازٍ حقَّقه العُلماء الأوروبيُّون، على الجانب الآخر، هو عدمُ إصدارهم لأيِّ نظريَّة قبل دعمها بالأدلة التجريبيَّة. والفضلُ الأكبرُ في هذا الإنجاز يعودُ لشخصٍ واحد، يُمكن اعتباره حجر الأساسِ الذي بدأ عصر النّهضة والثورة العلمية التي رافقَته، وهو غاليليو غاليلي.

قام غاليليو بأبحاثٍ عظيمةٍ في عشرات المجالات العلميَّة، وكان أحدُ أفضلِ أعماله دراسة سُقوط الأجسام وتفنيد الأخطاء السّابقة فيه. فقبل حوالي ألفي سنةٍ من مولدِ هذا العالم، كان الفيلسوفُ اليوناني “أرسطو” قد افترض، من مُراقبة الأشياء من حولِه، أنَّ سُرعة سقوط الأجسام من مكانٍ مُرتفعٍ تعودُ إلى وزنها، فورقة الشجر تسقطُ على الأرض أبطأ بكثيرٍ من كُرة معدنيَّة ثقيلة. بدا الأمرُ منطقياً، وتبعهُ الكثير من العلماء القدماء في اعتقاده.

justus_sustermans_-_portrait_of_galileo_galilei_16361

اهتمَّ غاليليو بهذا الافتراضِ اهتماماً شديداً، فصمَّم تجربةً دقيقةً لاختباره: ثبَّتَ أولاً لوحاً خشبياً يميلُ بزاويةٍ بسيطة، ثُمَّ دحرجَ عليه كراتٍ لها أوزانٍ مُختلفة، وقاسَ سُرعة سُقوط كل واحدة منها بتركيز شديد. توصَّل غاليليو إلى نتيجةٍ مُذهلة، فجميع الأجسام كانتْ تأخذُ الوقت نفسهُ تماماً حتى تتدحرجَ إلى الأسفل، بغضِّ النظر عن تفاوت وزنها، ما عدا تلك خفيفة الوزنِ جداً، فقد كانت سُرعتها أبطأ بقليل. تمكَّن غاليليو، على نحوٍ دقيق، من أن يفهمَ أنَّ سببَ بُطء الأجسام خفيفة الوزن هو تأثُّرها بمُقاومة الهواء، ممَّا كان يُبطء حركتها، على عكسِ الأجسام الثقيلة التي لا تعيرُ للهواء بالاً يُذكر. وهذا هو السَّببُ الوحيد في اختلاف سُرعة سُقوط ورقة الشجر عن ثقلٍ فولاذي. وأما لو كانت هذه الأجسام تسقطُ في فراغٍ تام خالٍ من الهواء، فإنَّ سُرعتها لن تختلفَ في شيء.

أحدثتْ أعمالُ غاليليو غاليلي ثورةً علميَّة، فقد انتشرتْ من بعدِه ثقافة التجريب العلمي وتدعيمِ النظريات بالأدلة التجريبيَّة التي تُثبتُ افتراضاتها، ومن هُنا لم يعُد ثمّة مجالٌ لوضع النظريات الزّائفة والمُضلِّة مثل تلك التي كَثُرَت لدى الشّعوب القديمة، وبدأ عصرٌ جديدٌ للعلم بدءاً من عام 1589، وهو تاريخُ بدء تجاربِ غاليليو. مُنذ ذلك الوقت، تسارَعت عجلة المعرفة البشريَّة على نحوٍ هائلٍ بفعل الدراسات والاختبارات العلميَّة، لتصلَ بنا إلى عصرنا هذا.

من اخترعَ الأعداد؟

لطالما كانت الأعداد موجودة مُنذ عصورٍ قديمة. فعندما يقتربُ موسم الشّتاء، على المُزارع أن يحسبَ ما لديه من مؤونة للفصلِ القاحل. وعندَ إجراء صفقة، لا بُدَّ من إحصاء كميَّة البضائع التي يُريد كلّ تاجر مُبادلتها. وبالواقع تستطيعُ حتى بعضُ الحيوانات أن تقومَ بعمليّات جمعٍ وطرحٍ عددية على مُستوى بسيط. لكن، متى فكَّر العُلمَاء لأوَّل مرة بدراسة الأعداد على أساسٍ علميّ؟

pythagoras_theorem

مثلآً، في الأصلِ لم تكُن الأعداد تُعبّر إلا عن أشياء واقعية، فالعددُ اثنين يُمثّل شخصين أو تفّاحتين أو حصانَيْن، لكنَّه لا يرمزُ لشيءٍ بحدِّ ذاته. ولكن عند التفكير به كعدد، كرقم 2، تُصبح له خواصٌّ فريدة، فالعددان الفرديَّان مجموعهما دائماً عددٌ زوجي، وهذا مثالٌ على خاصية عدديَّة. خصائصُ الضرب والقِسمة والهندسة المُستوية والفراغيَّة كُلَّها تقومُ على عِلْم الأعداد في الرياضيات، وهو شيءٌ لم يُفكّر به الإنسان كثيراً في العُصور القديمة.

كان أحدُ أوَّل العُلماء الذين درسوا الأعدادَ لذاتها هو فيثاغوروس. التفتَ نظرُ هذا العالم اليوناني للأعداد أوَّل مرَّة عندما لاحظَ أن أوتار الآلات الموسيقيَّة تصدر أصواتاً على درجاتٍ مُختلفة من السلَّم الموسيقي عند تغييرِ أطوالها بنسبٍ ثابتة. فنعدَ زيادة طول وترٍ بنسبة 1:2، فهو سيُعطي نفسَ النغمة المُوسيقيَّة تماماً لكن بدرجةٍ حادَّة أكثر، ويتكرَّرُ ذلك مرَّة أخرى لو زيدَ طوله مُجدَّداً بنسبة 3:2، ومرَّة أخرى بنسبة 4:3. أثارَ هذا التّناسبُ دهشة فيثاغوروس، لأنَّه لم يُفكِّر من قبلُ بأنَّ الأرقام قد تكونُ شيئاً ذا مغزى على نحوٍ تجريديّ، دُون ربطها بقيمٍ واقعية.

بدأ الرياضي اليوناني بدراسة خواصِّ الأرقام بطُرُقٍ كثيرة، فوجدَ أنَّه عندَ تمثيل أعدادٍ مُعيَّنة على صُورة نقاط، فيُمكن استعمالها لرسم أشكالٍ هندسيَّة وإيجاد علاقاتٍ فريدة بينها. فكَّر فيثاغوروس كذلك بقياس أطوال أضلاع الأشكال الهندسية، وإيجاد علاقاتٍ بينها، فبدأ برسم مُثلثَّات والتحقُّق من النسب بين أضلاعِها المُختلفة.

أثناء مُحاولاته هذه، لاحظَ أنَّه من الصَّعبِ تكوين مُثلَّث قائم الزاوية إلا عند استخدام أضلاعٍ بأطوالٍ خاصَّة جداً، فمثلاً، النسبة 3:4:5 كانت تنجحُ بتكون هذا النَّوع من المثلثات، بينما تفشلُ نسبة 2:3:4 و1:2:3 وما سواهما. وعندَ نُقطةٍ ما، فطنَ فيثاغوروس إلى شيءٍ طريف، وهو أنَّ مُربَّع العدد 5 (والتّربيع واحدةٌ من خواص الأعداد التي كان قد درسها خلال أبحاثه) والذي يُساوي 25، كان مُساوياً لمجموع العَدَيْن 16 و9، وهُما مُربَّعا الرَّقْمَين اللّذين يُمثّلان طوليْ الضلعين الآخرَيْن في مُثلَّثه. ومن هُنا وُلد قانون فيثاغوروس الذي سمعناهُ جميعاً مرَّاتٍ أكثر من أن تُعَد أو تُحصَى على مقاعدِ الدّراسة.

ومع أنَّ شُهرة فيثاغوروس الكُبرى تعودُ إلى قانون المُثلثات قائمة الزاوية، إلا أنَّ هذا القانون البسيطَ لم يَكُن أبرز ما قدَّمه للعلم، بل إنَّ إسهامه الأعظمَ هُو تمهيدهُ لدراسة الأعداد على أساسٍ رياضيّ علمي، يهدفُ لفهم خواصِّها وطريقة تفاعلُها المُعقَّدة جداً مع بعضها وليس استخدامها في الجمع والطرح فقط، وهو ما أدَّى إلى ثورةٍ في العُلوم بعصورٍ لاحقة.

ما هي القوّة؟

mechanical wheels

احتاجَ العُلماء لدراسة القوى مُنذ بداية عصر النَّهضة، ولمُدّة 400 عامٍ تقريباً، حتى توصَّلوا إلى فهمِهم الحاليّ لها. لعلَّك تعرفُ الآن أنَّ كلَّ شيءٍ في العالم مُكوَّن من ذرّات، وأن هذه الذرات ترتبطُ على هيئة جزيئات، لكن هل فكرت يوماً بكيفيَّة تفاعل هذه الذرات مع بعضها في حياتك اليومية؟ مثلاً، عندما تدفع كأس الماء الموضُوع أمامَك على المكتب، فماذا يحدثُ داخله، هل تتلامسُ ذرّات جسدك مع ذرّات الزّجاج لتدفعها للأمام؟

لا. ليس ذلك ما يحدُث. فالذرات لا تتلامسُ أبداً.

وضعَ نُيوتن ثلاثة قوانين تُفسِّر حركة كلِّ جسمٍ في الكون في سنة 1687، أهمُّ هذه القوانين هي أنَّ “التغيُّر في حركة الجسم يتماثلُ مع مقدار واتّجاه القوة الواقعة عليه” وأنَّ “لكُلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ مُساوٍ لهُ في المقدار ومُعاكسٌ له في الاتجاه”. يُمكن إسقاطُ القانون الأوَّل على قوَّتي الدفع والشد، فعندما تدفع شيئاً أو تسحبُهُ فأنتَ تجعلهُ يُغيّر اتجاهه ويزيدُ سرعته بمقدارٍ يتناسب مع قوتك. وأما القانون الآخرُ فهو مُماثلٌ لما يحدث عندما تضعُ كأساً على الطّاولة، فذلك الكأس يتعرَّض لقُوَّة تسحبُه إلى الأسفل بفعلِ وزنه، لكنَّ الطاولة تُؤثر عليه بقُوَّة مُساوية نحو الأعلى، فيبقى مُستقراً بمكانه ببساطة. استُخدم هذان القانونان بالإضافة إلى واحدٍ ثالث، لتفسير جميع حركات الآلات والأجسام الميكانيكية في العالم، وكان لها دورٌ جوهريٌّ في اختراعات الثورة الصناعية وغيرها.

اصطلحَ على تسمية هذه القوى في عصر النَّهضة بـ”القوى الميكانيكيَّة”، ولا زالَ هذا الاصطلاح يُستَعمل حتى الآن، لكنَّنا نعرفُ في الوقت الحاضر أنَّه غيرُ دقيقٍ تماماً.

unnamed

حسب العلم الحديث، تُوجد أربعة قوى معروفةٌ لنا في الكون فحسَبْ، وهي جميعاً تُؤثّر على الأجسام “عن بُعد”، أي أنَّها تعملُ عبرَ مجالات طاقةٍ غير مرئيّة. هل تذكرُ الخُطوط المُقوَّسة التي كنت تراها مرسومةً حول المغناطيس في الكُتب المدرسية؟ هذا مثالٌ على مجالٍ للطاقة، فأيُّ شيءٍ يقتربُ من هذه الخطوط سوف يخضعُ لتأثير قوّضة المغناطيس، سواءً بالدفع أو السَّحْب. القوى الأربعةُ التي تصنع المجالات في كوننا هي: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية الشديدة والضعيفة.

إذاً، ماذا يحدثُ عندما تُمسك بفُنجاج شاي أو كتابٍ بقُربك؟ قد تعتقدُ أنَّ يدك مُتلاصقة مع هذه الأشياء، لكنْ على المُستوى الذريّ، سوفَ تبقى دائماً مسافةٌ ضخمة تفصلُ بين ذرّات يدك وذرّات هذه الأجسام. فما يحدثُ في الحقيقة هو أنَّ المجالات الكهرومغناطيسية أو النووية حول ذرَّاتكُما تتنافرُ أو تتجاذبُ فتجعلها تبتعدُ عن بعضها أو تتقاربُ دُون أن يحدث بينها تلامسٌ فعليّ.

هذه المجالات غير المرئيَّة من الطاقة تُحرِّك كلَّ شيءٍ في الكون. فهي المسؤولةُ عن جميع قوى السَّحب والدَّفع، والآلات الميكانيكية، ومُولِّدات الطاقة، وكذلك دوران الأرض حول الشّمس، وهي أصلُ كل حركةٍ تحدث في أيّ مكانٍ بالعالم.

لماذا تتغيّر حركةُ الأشياء؟

عندما نشرَ نُيوتن قوانينه الثلاثة في الحركة سنة 1687، كان أوَّلُها ينصُّ على أنَّ “الجسمَ يحتفظُ بحالته، سواء كانت السكون أو الحركة بسُرعة ثابتة، ما لم يُؤثّر عليه عاملٌ خارجي”، يُسمّى هذا القانون أيضاً القصور الذاتي، وهو واحدٌ من أهمِّ القوانين الفيزيائية.

عندما يُطلق رامٍ سهماً في الهواء، ومهما كانت ذراعُه قويَّة وعضلاتُه مفتولة، فإنَّ السهم سيسقطُ إلى الأرض، عاجلاً أو آجلاً، بعد أن يقطعَ بضع عشراتٍ أو مئاتٍ من الأمتار.لكن الرَّامي كان قد وضعَ داخل سهمِه طاقة حركيَّة كبيرة، وإذا ما سقطَ السهم إلى الأرض، فذلك يعني أن كلَّ طاقته قد اختفت، فلماذا يحدثُ ذلك؟

السَّببُ هو دائماً وُجود عاملٍ يُؤثّر بقُوّة مُعاكسة أو باتجاه مُختلف يجعلُ الأشياء تتوقَّف عن الحركة. في حالة السهم، فإنَّ هذا العامل هو مُقاومة الهواء، فكُلَّما أرادت جُزيئات السَّهم قطع مسافةٍ أكبر من الجوّ سيكونُ عليها الاحتكُاك بذرّات الهواء ودفعُها جانباً، ولكي تفعلَ ذلك فإنَّ عليها نقلَ جزءٍ من طاقتها الحركية إلى ذرات الهواء لتستطيع تلكَ الابتعادَ عن طريقها، وسُيؤدّي ذلك إلى انخفاض سرعة السَّهم لأنَّه تبرَّع للهواءِ بجُزءٍ من طاقته. بعد فترةٍ من الوقت، سيكون السهم قد خسرَ مُعظم سرعته، وسيبدأ بالهُبوط نحو الأرض أو يرتطمُ بشيءٍ ما.

لكن، إن كانت هذه التجربة قد أُجرِيَتْ في الفراغ، فإنَّ نتائجها ستختلفُ كُلياً.

لو كان كونُنا فضاءً خاوياً لا يحتوي على أي نوعٍ من المادة، وحاولتَ أن ترمي فيه سهماً، ومهما كانت عضلاتُك ضعيفة ورميتك سيّئة، فإنَّ السهم الذي تُلقيه سيستمرُّ بالتحليق في الفضاء إلى الأبد، فليسَ هناك سببٌ يمنعُه من ذلك. طالما لا تُوجد مُقاومة أو قوى تؤثر بالسَّهم باتجاهٍ جديد، فلا يُوجد شيءٌ سيجعله يفقدُ طاقته الحركية.

space-baseball-terry-virts

لكن في عالمنا تُوجد في العادة الكثيرُ من العوامل التي تُؤثّر على الأجسام المُتحرّكة، مثل الاحتكاك بالهواء أو الماء أو الاصطدام بالموادِّ الصُّلبة، ولذلك يصعبُ على أي شيءٍ أن يظلَّ مُتحرّكاً لفترة طويلة. وهذه هي الفكرة التي يُحاول قانون القصور الذاتي شرحَها، بالإضافة إلى نتائجها. حسبَ هذا القانون، لدى كلِّ جسمٍ وضعٌ ثابت يميلُ إلى البقاء فيه، ولن يُغيِّره إلا لو خضعَ لتأثيرٍ قويّ بما يكفي من قُوّة أخرى.

على كوكبِ الأرض، تميلُ معظم الأشياء غير الحيَّة إلى البقاء في حالةٍ من السّكون. الصّخور والحجارة والجبال والأبنية تبقى في مكانِها مُعظم الوقت، إلا لو بذلَ شيءٌ الجُهْد لتحريكها. ويُمكنك بسهُولة أن تدفع حجراً بقدمك أو ذراعك لتجعلهُ يدخل في حالة حركةٍ لوقتٍ قصير، لكن عليك بذل جُهدٍ شديد لدفع صخرة كبيرة، وسيستحيلُ عليك تماماً إحداث أيّ تأثيرٍ على مبنى سكنيّ. هذا الاختلافُ بين الحجرة والصخرة والبناية هو ما يُسمّى في الفيزياء “القصورَ الذاتي”، ويُمكنك تخيُّلهُ على أنَّه مقدار مُمانعة جسمٍ لمُحاولة تحريكه.

وبالمِثْل، فإنَّ الأجسام التي لها قصورٌ ذاتيٌّ كبير يعصبُ إيقاف حركتها بنفس مقدار صُعوبة تحريكها. فمن السَّهل عليكَ أن تُدحرج حصاةً صغيرة ثُمَّ تضع يدك أمامها لتُوقفها، لكن لو سقطتْ صخرة كبيرة بقُربك فإنَّ مُحاولة إيقافها عن التَّدحرجُ ستتطلَّب المُخاطرة بحياتك. يرتبطُ القصور الذاتي للأجسام مُباشرة بكتلتها، وقد يبدو مفهوماً شبيهاً بالوزنِ إلى حدٍّ ما، إلا أنَّ له تأثيراتٍ أكثر تعقيداً.

ظُهور فكرة التطوّر:

كنتُ قد كتبت من قبل على هذه المدوّنة مقالةً مُفصَّلة عن نظرية التطور، ومع أنَّ البعضَ قد يعتقدُ أن هذا الموضوع جدليٌّ أو لا يستحسنُ الخوض فيه، إلا أنِّي لا أظن أنَّه يقبل الجدل على الإطلاق، ففي الواقع، هو الآن جزءٌ جوهري من العِلْم الحديث، وكتاب “أفكار العِلم العظيمة” يُساعد على إيضاح السَّبب.

في الماضي البعيد، لم يكُن لدى العُلماء سببٌ للتفكير بالتطوّر أصلاً، لأنَّهم لم يهتمُّوا بوُجود تفسير علمي لأي شيء يتعلَّقُ بالحياة، وفي الحقيقة فإنَّ ذلك كان ينطبقُ على أشياء كثيرة أخرى، فالعلماءُ القدامى لم يُفكّروا أيضاً بوُجود تفسير لتكوّن الشمس، أو الأرض، أو القمر، أو تغيُّر القارات (التي لم يعرفوا أصلاً أنها تتغيَّر)، بل ولم يُدركوا أصلاً أن السَّماء كانت جُزءاً من نفس الكون الذي تُوجد فيه الأرض.

ببساطة، ظنَّ العُلماء أنَّ مُعظم الظواهر الأساسية في الطبيعة هي أشياءٌ كانت موجودةً دائماً ولا مجالَ للتفكير بها أو مُناقشتها. فقد تُدهَش لو عرفتَ أن الجيولوجيِّين في القرن السّابع عشر اعتقدوا أنَّ عُمر كوكب الأرض يربو من ستة آلاف سنة.

لكنَّهم كانوا مُخطئين جداً.

بدءاً من سنة 1760، بدأ عُلماء الجيولوجيا، وأوَّلهم جورج دي بيوفون، بالقول أنَّ الأرض قد تكونُ قديمة جداً. أثبتت الدراساتُ خلال السنوات اللاحقة أنَّ عُمر الأرض كان أطول بكثيرٍ ممَّا تجرَّأ أيُّ أحدٍ على التفكير به من قبل، ونحنُ نعرف الآن أنَّه يزيدُ عن أربعة مليارات عام.

غيَّرَتْ هذه الحقيقةُ أموراً كثيرة، فلوْ كانت الأرض كوكباً قديماً، فإنَّ الحياة رُبّما لم تكُن موجودة عليها دائماً، ولعلَّ الزمن سببَّ لها تغيُّراً مثل غيَّر كلَّ شيءٍ آخر في طبيعة كوكبنا من جبالٍ ومُحيطات وتضاريس أخرى.

كان أوَّل من طرح تفسيراً علمياً يشرحُ تغيَّر الحياة هو العالم الفرنسي جين بابتست دي لامارك، فقد نشرَ في عام 1809 بحثاً اقترح أنَّ الكائنات الحية رُبَّما كانت تتغير بسببِ مُيول مُعيَّنة ليس عندها إدراكٌ لها. فمثلاً، قال لامارك بأنَّ بعض الظّباء رُبّما كانت تُفضّل الاقتيات على أوراق نباتٍ لا تنمو سوى على أشجارٍ مُرتفعة، وبالتالي احتاجتْ باستمرارٍ إلى مدِّ رُؤوسها ورقابها للوُصول إلى الأغصان العالية، فاكتسبت تدريجياً مِيزة الطول، حتى تحوَّلت إلى نوعٍ جديد هو الزّرافة.

وافترضَ لامارك في نظريَّته أنَّ الكائنات الحيَّة قادرةٌ على أن تُورّث لأبنائها الصّفات التي تكتسبُها خلال حياتها، وذلك يُشبه القول بأنَّ مخلوقاً فقد ذراعهُ أثناء حياته، قد يُنجب ابناً دُون ذراع. وقد أثبتت أبحاثُ الوراثة سريعاً أنَّ هذه الفكرة مُستحيلة، وسُرعان ما اندثرت نظرية لامارك.

1a2a6a2af5c78371a083574a4dcfdc48

لكن بعد خمسٍ وعشرين سنة، جاءَ تحوُّل كبيرٌ في تلك الفكرة البدائية. ففي ذلك العام ركب عالم أحياءٍ إنكليزي شاب، يُدعى تشارلز دارون، على متنِ سفينة كانت مُتّجهة في رحلة استكشافية إلى مجموعةٍ من الجُزر تُسمّى جزر الغالاباغوس، تقعُ قبالة سواحل أمريكا الجنوبية.

كان عملُ دارون هو دراسة وتصنيف الأنواع الحيَّة، وقد جمعَ عيّناتٍ من 14 نوعاً من العصافير المُغرّدة التي تعيشُ في الغالاباغوس وسجَّلَ أوصافها في سجلاّته بعناية، وما كان يقومُ به هو مهمَّة علميَّة بحتة.

لكنه لاحظَ شيئاً مُلفتاً أثناء تسجيله لأوصاف العصافير. فقد كانت جميعُ العصافير التي عاشتْ على تلك الجُزر متشابهةً جداً. في الحقيقة، كانت كُلَّها مُماثلةً تقريباً لأنواعٍ أخرى من العصافير تعيشُ في قارّة أمريكا الجنوبية، على مسافة 1,000 كيلومترٍ تقريباً، إلا أنَّ بينها جميعاً اختلافاتٍ بسيطةٍ جداً في أشكال مناقيرها. والأمرُ المُدهش هو أنَّ هذه الاختلافات ترافقتْ مع حقيقة أنَّ لكلِّ واحدٍ من هذه العصافير، نوعٌ مختلفٌ من الغذاء.

وعندها فكَّر دارون بشيء. فماذا لو كانتْ جميع هذه العصافير بالأصل نوعاً واحداً، وانقسمَت منهُ إلى مجموعاتٍ بسبب اختلاف أنواع غذائها؟ لم يزعم دارون أنَّ الكائنات تتغيَّر حسبَ رغبتها أو مزاجيّاتها، بل قال ببساطةٍ، أنَّها تستجيبُ لما توفّره لها الطبيعة. فعندما يكونُ لعصفورٍ ما منقارٌ مُناسبٌ أكثر بقليلٍ من بني جنسه لصطياد الحشرات، فمن الطبيعيِّ أن يميلَ للتغذّي على الحشرات أكثرَ من غيرها، لأنَّ لهُ أفضليَّة على غيره في الحُصول على هذا الغذاء، وبالتالي لن يتعرَّض للمُنافسة أو نقصٍ في الطّعام.
كانت هذه الفكرة بداية تحوُّلٍ هائلٍ في علم الأحياء، وهي الأساسُ الذي يقومُ عليها فهمُنا الآن لطبائع الكائنات الحيّة وطريقة تغيّرها في عالمنا.

لماذا كانت طُفولتنا خالية من اليراعات المُضيئة؟


لو كنتَ لطَّختَ طفولتك الحزينة مثلي بمُشاهدة فلم “قبر اليراعات” (Hotaru no haka) من إنتاج ستوديو غيبلي والذي يتحدَّثُ عن آثار الحرب العالمية الثانية في اليابان، فلعلَّك تساءلتَ  لماذا لم تُقابل في طفولتك أياً من الذبابات المُضيئة، أو اليراعات كما تُسمّى علمياً، التي كان يجمعُها زيتا لأختُه الصَّغيرة. وفي الحقيقة، لو كنتَ تسكنُ في أيِّ مدينة ذات مُناخٍ متوسطي معتدل، مثل معظم مدن بلاد الشام ودُول المغرب، فعلى الأرجح أنَّ الشارع الذي تُقيم فيه الآن كان مليئاً – قبل ثلاثين أو أربعينَ عاماً – بهذه الكائنات. رُغم ذلك، من المُحتمل أنَّك لم تُقابل أياً منها حياتك، أو لو كنت من جيلٍ قديم، فرُبَّما صادفتها آخر مرَّة وأنت في سنين مُراهقتك. السَّببُ في ذلك هو أنَّ اليراعات آخذةٌ بالاختفاء من جميعِ أنحاء العالم بسُرعةٍ مُضطَّردة، والتفسير العلمي مدهشٌ جداً.

اليراعات هي حشراتٌ صغيرةٌ من فصيلة الخنافس، تعيش في المناطق المُعتدلة والمدارية بمُعظم أنحاء العالم، إذ يُوجد منها في آسيا وأوروبا والأمريكيَّتين أكثر من 2,000 نوع. السِّمة الأكثر فرادةً في هذه الكائنات هي قُدرتها على إنتاج الضوء من أجسامها، فلدى اليراعة في الجانب السفليّ من بطنها عضوٌ خاصٌّ يستطيعُ إصدار أشعة الضوء بإجراء تفاعلٍ كيميائي بين الأكسجين ومادَّة تُسمّى اللوسفيرين، وهذا هو نفسُ التفاعل الذي تعتمد عليه العديد من الكائنات الحيَّة الأخرى لإنتاج الضوء، مثل بعضِ أنواع الحلازين والبكتيريا وأسماك أعماق المُحيط.

image4

تدفنُ إناث اليراعات بيُوضها تحت التراب في بداية فصل الرَّبيع، وتخرج يرقاتُها الصَّغيرة بعد شهرٍ تقريباً لتتجوَّل وتبحثَ عن غذائها، واليرقات أيضاً مُضيئة مثل الحشرات البالغة. تتغذى هذه اليرقات على أيّ كائنٍ تجدُه، وغالباً ما يتكون طعامُها من الحلازين والبزاقات، التي تستطيعُ التهامها بإفراز سوائل هاضمةٍ فوقها. تأخذُ اليرقات سنة أو اثنين حتى تصلَ مرحلة البُلوغ، وعادةً ما تعيشُ لشهرين تقريباً بعد ذلك. ومع أنَّ خاصية الضوء موجودةٌ لدى اليرقات والحشرات البالغة، إلا أنَّ الهدفَ منها أخافة الكائنات المُفترسة وإبعادها فحسب، وأما لدى اليراعات مُكتملة النموّ فيبدو أنَّ وظيفتها أكثرُ أهميَّة.

خلال السَّنوات الأخيرة، بدأ العُلماء يُلاحظون انخفاضاً في أعداد اليراعات في العديد من الأماكن. اكتُشفت هذه الظاهرة في البداية في الحدائق والمُنتجعات التي تُنظِّم جولاتٍ سياحيَّة دوريَّة لمُراقبة اليراعات في اللَّيل، فكُلَّما زادت حركة السُيَّاح الذين يأتون لمُشاهدة الحشرات وهي تُضيء في الليل، كانت أعدادُها تتناقصُ بسرعةٍ حتى تختفي. وُضِعَت العديدُ من المُبرِّرات في البداية لتفسير اختفاء اليراعات، فمثل العديد من الحيوانات الأخرى، لا بُدَّ أن هذه الكائنات تتأثر بالنشاط البشري الذي يتسبَّب بتدمير بيئتها الطبيعية من غاباتٍ وأحراش، وتجفيف المُستنقعات والأجسام المائية التي تُفضِّل العيش حولها، فضلاً عن أنَّ المُبيدات الحشريَّة لها أثرها السيّء عليها في الغالب. لكن، على ما يبدو أنَّ أياً من هذه العوامل، رُغم دورها، ليست السبب الجوهري في انقراض اليراعات.

تُوحي العديد من الأبحاث والدراسات الحديثة بأنَّ العامل الأكثر أهميَّة في تناقصِ اليراعات هو أضواء الشوارع. لعلَّ الجانبَ الأكثر إثارةً من هذه الحشرات بالنسبة للأطفال هو ضوئها الأخضر الغريب، إلا أنَّها لا تصدر الضوء من حولها عبثاً، بل لهذا الوهج الجميل أهميَّة شديدة في دورة حياتها الطبيعية. عندما تطيرُ اليراعات بجانب بعضها وتُصدر ومضاتٍ مُتتابعة من الضوء، فهي تحرص على مُزامنتها مع بعضها بوتيرةٍ دقيقة ثابتة، هذه المزامنة تساعد اليراعات على التواصل مع بعضها واختيار شريك لها للتزاوج.

Adult Firefly - Photuris lucicrescens

تظهر التجارب أنَّه عندما تتعرض مجموعة من اليراعات لضوءٍ ساطع، مثلما يحصلُ من أنوار سيَّارة عابرة أو ضوء منزلٍ مجاور، فهي تتشتَّت وتفقدُ مزامنتها لومضاتها الضوئية، وتحتاج إلى عِدَّة دقائق لإعادة ترتيبِ نفسها ومزاولة التواصل مع بعضها. يُؤثر مثل هذا التشتيت بطريقةٍ مُباشرة على عملية التزاوج، وبالتالي على وضع البُيوض والحفاظ على بقاء النوع. عندما يزيد مُستوى الإضاءة حولَ اليراعات عن درجة مُعيَّنة، فمن المُمكن أن تصبح عاجزةً تماماً عن التزاوج مع بعضها. في المدن الحديثة، تُوجد آلاف مصادر الضوء السَّاطع في الليل التي تُشتِّت مجموعات اليراعات في كلِّ مكان، فثمَّة أنوار السيارات، ومصابيح الشوارع، والمنازل، والحدائق، والمحال التجارية. بدُون أن يتم التزاوج يتوقَّف إنتاج الأجيال الجديدة، وتنقرضُ هذه الحشرات بسُهولةٍ بالغة.

لا زال العُلماء يجرون الكثير من الدراسات، في السنوات الأخيرة خُصوصاً، لفهم سلوك هذه الحشرات وكيف يؤثر تطور المُدن على حياتها، إلا أنَّ المرجح، في حال استمرار هذه الظروف، أن اليراعات ستسمرُّ بالتناقص حتى تختفي من أغلب أنحاء كوكبنا.

العادة الغريبة لطُيور الواقواق


كنتُ أعمل خلال الفترة الماضية مع صديقي باسم فليفل على تطوير مقالة الطيور في ويكيبيديا العربيَّة لتُصبح مقالة مختارة (درجةٌ خاصة من المقالات التي تعرَضُ دورياً على الصَّفحة الرئيسية لويكيبيديا)، عندما صادفتُ هذا المشهد المُدهش، الذي أجده مثيراً للاهتمام كثيراً بحيثُ رغبت بمشاركته هُنا.

يظهرُ في هذه الصورة المُخيفة عصفورٌ بالغ وهو يُطعم فرخاً ضعيفاً عاجزاً عن الطيران أو الحركة، إلا أنَّ هذا الفرخ المسكين يزيد في حجمه ووزنه عن “والدته” بأضعافٍ عديدة. في الحقيقة، هذا الفرخ هو من طُيور الواقواق، وأما والدته فهي عصفورة حبَّاكة، وهُما نوعان ينتميان إلى فصيلتين مُختلفتين كلياً من الطُّيور، إلا أنَّ سبب وُصولهما إلى هذه العلاقة الأبوية الجميلة لم يكن محض صدفةٍ سعيدة، وبالتأكيد لم يكُن بسبب صداقة حيوانية فريدة من نوعٍ ما.

السَّببُ الفعلي هو أنَّ طيور الواقواق تنتمي إلى مجموعة من الحيوانات يُطلَق عليها اسم “مُتطفِّلات الأعشاش”، وهي كائناتٌ ليست لها القُدرة أو الجاهزية للاعتناء بصغارها بنفسها، ولذلك، فعوضاً عن تحمُّل مسؤولية العناية بهم، تبحثُ هذه الكائنات عن أعشاش غيرها لتتركَ فيها بيضها سرًّا. ففي أحد الأيَّام بينما كانت هذه العُصفورة بعيدةً عن عُشِّها، جاء طائر واقواق وزجَّ ببيضته في العُشّ. وعندما فقس صغير الواقواق من بيضته، وبسبب ضخامة حجمه وقوَّته مقارنةً ببيُوض العصفور الحبَّاك الصغيرة، فقد استطاعَ دفعها بصورة غريزيَّة من فوق العُشّ لتسقطَ على الأرض وتموت الأجنَّة التي داخلها. بهذه الطريقة، ضمنَ فرخ الواقواق لنفسه الحُصول على كُلِّ الغذاء الذي تجلبه إليه أنثى العُصفور الحباك، وأما الأم المسكينة فهي لم تُدرك شيئاً ممَّا حدث، وسوف تستمرُّ بالعناية بالفرخ كأنَّه ابنُها حتى يكبرَ ويُصبح قادراً على الاهتمام بنفسه، وعندها سوف يضعُ هو نفسه بيوضه في أعشاش طُيورٍ أخرى لتعتني بها على حساب صغارها هيَ.

Reed_warbler_cuckoo