“قصصٌ ممتعةٌ من كتاب “أفكار العِلْم العَظيمة


photo_2016-09-20_18-56-51

قرأتُ اليوم كتاب “أفكار العلم العظيمة” لإسحق عظيموف، وقد كان حقيقةً مُفيداً ومُلهماً جداً، فمعَ أنَّني كانت لديَّ فكرة عامَّة مُسبقة عن أغلب ما فيه، إلا أنَّه أعطاني تفاصيلاً جوهريَّة عن بعض الأشياء ومنظوراً جديداً تماماً عن العديد من العُلماء المشهُورين وأهميَّة اكتشافاتهم في تغيير مسيرة العِلْم، ولذا سأشاركُ معكم بعضَها هُنا.

هذا الكتابُ صغير (حوالي 150 صفحة) لكنَّه عظيمٌ جداً، فهو يُقدِّم شُروحاتٍ مُختصرة لأهم الاكتشافات التي حقَّقها العلماء عبر التاريخ، بدءاً من الإغريق القُدماء، مُنذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، وحتى العلماء الأوروبيون الجُدد خلال القُرون الخمسة الأخيرة. يُحاول الكتاب التركيز على أهمِّ النظريّات التي أدَّت إلى قفزاتٍ نوعيَّة في العِلْم في زمنها. التَّرجمة أيضاً ممتازةٌ جداً، فقد جاءت ضمنَ جزءٍ من مشروع الألف كتاب الثاني المصريّ الذي نُشر في سنة 1997، وهو في الحقيقة واحدٌ من أفضل مشاريع الترجمة العربيَّة على الإطلاق، والتي أتمنَّى لو يتمُّ تكرارُها مرَّة أخرى الآن.

كيف ولد العِلْم؟

قد تأخذُ هذا الأمر على محملٍ بديهيّ، “لطالما كان العِلم موجوداً”، إلا أنَّ ذلك ليسَ صحيحاً تماماً. لقد درس الإنسانُ العلم بطُرُقٍ بسيطة مُنذ عصورٍ غابرة، وقد وضعَ العُلماء الإغريق والهنود والصينيون والعرب مئات النظريّات العظيمة في الرياضيات والفيزياء والفلك على مرّ آلاف السّنين، لكن، ألم تتساءَل مرَّة لماذا لم تُؤدِّ كل إنجازاتِهم العلميَّة إلا لجُزءٍ بسيطٍ من النَّهضة التي حدثت في أوروبا بدءاً من القرن السّادس عشر؟ لا بُدَّ أن ثمَّة فرقاً ما وقعَ قبل خمسمائة سنة، أدَّى إلى تلك الثورة العلميَّة والفكريَّة الكُبرى.

كان هذا الفرق هو التحوُّل من “النظرية” إلى “التطبيق”. لقد وضعَ الإغريق – مثلاً – الكثير من النظريَّات العلمية، التي أصابَ بعضُها بدقَّة، مثل قوانينهم في الرياضيات، بينما كانت بعضُها أبعد ما تكونُ عن الحقيقة، مثل فكرتهم بأنَّ كلَّ مادَّة في العالم مُكوَّنة من خليطٍ من خمسة عناصر غريبة (النار والماء والتراب والهواء والمعدن).

pftim19_01

قد يكونُ أكبر إنجازٍ حقَّقه العُلماء الأوروبيُّون، على الجانب الآخر، هو عدمُ إصدارهم لأيِّ نظريَّة قبل دعمها بالأدلة التجريبيَّة. والفضلُ الأكبرُ في هذا الإنجاز يعودُ لشخصٍ واحد، يُمكن اعتباره حجر الأساسِ الذي بدأ عصر النّهضة والثورة العلمية التي رافقَته، وهو غاليليو غاليلي.

قام غاليليو بأبحاثٍ عظيمةٍ في عشرات المجالات العلميَّة، وكان أحدُ أفضلِ أعماله دراسة سُقوط الأجسام وتفنيد الأخطاء السّابقة فيه. فقبل حوالي ألفي سنةٍ من مولدِ هذا العالم، كان الفيلسوفُ اليوناني “أرسطو” قد افترض، من مُراقبة الأشياء من حولِه، أنَّ سُرعة سقوط الأجسام من مكانٍ مُرتفعٍ تعودُ إلى وزنها، فورقة الشجر تسقطُ على الأرض أبطأ بكثيرٍ من كُرة معدنيَّة ثقيلة. بدا الأمرُ منطقياً، وتبعهُ الكثير من العلماء القدماء في اعتقاده.

justus_sustermans_-_portrait_of_galileo_galilei_16361

اهتمَّ غاليليو بهذا الافتراضِ اهتماماً شديداً، فصمَّم تجربةً دقيقةً لاختباره: ثبَّتَ أولاً لوحاً خشبياً يميلُ بزاويةٍ بسيطة، ثُمَّ دحرجَ عليه كراتٍ لها أوزانٍ مُختلفة، وقاسَ سُرعة سُقوط كل واحدة منها بتركيز شديد. توصَّل غاليليو إلى نتيجةٍ مُذهلة، فجميع الأجسام كانتْ تأخذُ الوقت نفسهُ تماماً حتى تتدحرجَ إلى الأسفل، بغضِّ النظر عن تفاوت وزنها، ما عدا تلك خفيفة الوزنِ جداً، فقد كانت سُرعتها أبطأ بقليل. تمكَّن غاليليو، على نحوٍ دقيق، من أن يفهمَ أنَّ سببَ بُطء الأجسام خفيفة الوزن هو تأثُّرها بمُقاومة الهواء، ممَّا كان يُبطء حركتها، على عكسِ الأجسام الثقيلة التي لا تعيرُ للهواء بالاً يُذكر. وهذا هو السَّببُ الوحيد في اختلاف سُرعة سُقوط ورقة الشجر عن ثقلٍ فولاذي. وأما لو كانت هذه الأجسام تسقطُ في فراغٍ تام خالٍ من الهواء، فإنَّ سُرعتها لن تختلفَ في شيء.

أحدثتْ أعمالُ غاليليو غاليلي ثورةً علميَّة، فقد انتشرتْ من بعدِه ثقافة التجريب العلمي وتدعيمِ النظريات بالأدلة التجريبيَّة التي تُثبتُ افتراضاتها، ومن هُنا لم يعُد ثمّة مجالٌ لوضع النظريات الزّائفة والمُضلِّة مثل تلك التي كَثُرَت لدى الشّعوب القديمة، وبدأ عصرٌ جديدٌ للعلم بدءاً من عام 1589، وهو تاريخُ بدء تجاربِ غاليليو. مُنذ ذلك الوقت، تسارَعت عجلة المعرفة البشريَّة على نحوٍ هائلٍ بفعل الدراسات والاختبارات العلميَّة، لتصلَ بنا إلى عصرنا هذا.

من اخترعَ الأعداد؟

لطالما كانت الأعداد موجودة مُنذ عصورٍ قديمة. فعندما يقتربُ موسم الشّتاء، على المُزارع أن يحسبَ ما لديه من مؤونة للفصلِ القاحل. وعندَ إجراء صفقة، لا بُدَّ من إحصاء كميَّة البضائع التي يُريد كلّ تاجر مُبادلتها. وبالواقع تستطيعُ حتى بعضُ الحيوانات أن تقومَ بعمليّات جمعٍ وطرحٍ عددية على مُستوى بسيط. لكن، متى فكَّر العُلمَاء لأوَّل مرة بدراسة الأعداد على أساسٍ علميّ؟

pythagoras_theorem

مثلآً، في الأصلِ لم تكُن الأعداد تُعبّر إلا عن أشياء واقعية، فالعددُ اثنين يُمثّل شخصين أو تفّاحتين أو حصانَيْن، لكنَّه لا يرمزُ لشيءٍ بحدِّ ذاته. ولكن عند التفكير به كعدد، كرقم 2، تُصبح له خواصٌّ فريدة، فالعددان الفرديَّان مجموعهما دائماً عددٌ زوجي، وهذا مثالٌ على خاصية عدديَّة. خصائصُ الضرب والقِسمة والهندسة المُستوية والفراغيَّة كُلَّها تقومُ على عِلْم الأعداد في الرياضيات، وهو شيءٌ لم يُفكّر به الإنسان كثيراً في العُصور القديمة.

كان أحدُ أوَّل العُلماء الذين درسوا الأعدادَ لذاتها هو فيثاغوروس. التفتَ نظرُ هذا العالم اليوناني للأعداد أوَّل مرَّة عندما لاحظَ أن أوتار الآلات الموسيقيَّة تصدر أصواتاً على درجاتٍ مُختلفة من السلَّم الموسيقي عند تغييرِ أطوالها بنسبٍ ثابتة. فنعدَ زيادة طول وترٍ بنسبة 1:2، فهو سيُعطي نفسَ النغمة المُوسيقيَّة تماماً لكن بدرجةٍ حادَّة أكثر، ويتكرَّرُ ذلك مرَّة أخرى لو زيدَ طوله مُجدَّداً بنسبة 3:2، ومرَّة أخرى بنسبة 4:3. أثارَ هذا التّناسبُ دهشة فيثاغوروس، لأنَّه لم يُفكِّر من قبلُ بأنَّ الأرقام قد تكونُ شيئاً ذا مغزى على نحوٍ تجريديّ، دُون ربطها بقيمٍ واقعية.

بدأ الرياضي اليوناني بدراسة خواصِّ الأرقام بطُرُقٍ كثيرة، فوجدَ أنَّه عندَ تمثيل أعدادٍ مُعيَّنة على صُورة نقاط، فيُمكن استعمالها لرسم أشكالٍ هندسيَّة وإيجاد علاقاتٍ فريدة بينها. فكَّر فيثاغوروس كذلك بقياس أطوال أضلاع الأشكال الهندسية، وإيجاد علاقاتٍ بينها، فبدأ برسم مُثلثَّات والتحقُّق من النسب بين أضلاعِها المُختلفة.

أثناء مُحاولاته هذه، لاحظَ أنَّه من الصَّعبِ تكوين مُثلَّث قائم الزاوية إلا عند استخدام أضلاعٍ بأطوالٍ خاصَّة جداً، فمثلاً، النسبة 3:4:5 كانت تنجحُ بتكون هذا النَّوع من المثلثات، بينما تفشلُ نسبة 2:3:4 و1:2:3 وما سواهما. وعندَ نُقطةٍ ما، فطنَ فيثاغوروس إلى شيءٍ طريف، وهو أنَّ مُربَّع العدد 5 (والتّربيع واحدةٌ من خواص الأعداد التي كان قد درسها خلال أبحاثه) والذي يُساوي 25، كان مُساوياً لمجموع العَدَيْن 16 و9، وهُما مُربَّعا الرَّقْمَين اللّذين يُمثّلان طوليْ الضلعين الآخرَيْن في مُثلَّثه. ومن هُنا وُلد قانون فيثاغوروس الذي سمعناهُ جميعاً مرَّاتٍ أكثر من أن تُعَد أو تُحصَى على مقاعدِ الدّراسة.

ومع أنَّ شُهرة فيثاغوروس الكُبرى تعودُ إلى قانون المُثلثات قائمة الزاوية، إلا أنَّ هذا القانون البسيطَ لم يَكُن أبرز ما قدَّمه للعلم، بل إنَّ إسهامه الأعظمَ هُو تمهيدهُ لدراسة الأعداد على أساسٍ رياضيّ علمي، يهدفُ لفهم خواصِّها وطريقة تفاعلُها المُعقَّدة جداً مع بعضها وليس استخدامها في الجمع والطرح فقط، وهو ما أدَّى إلى ثورةٍ في العُلوم بعصورٍ لاحقة.

ما هي القوّة؟

mechanical wheels

احتاجَ العُلماء لدراسة القوى مُنذ بداية عصر النَّهضة، ولمُدّة 400 عامٍ تقريباً، حتى توصَّلوا إلى فهمِهم الحاليّ لها. لعلَّك تعرفُ الآن أنَّ كلَّ شيءٍ في العالم مُكوَّن من ذرّات، وأن هذه الذرات ترتبطُ على هيئة جزيئات، لكن هل فكرت يوماً بكيفيَّة تفاعل هذه الذرات مع بعضها في حياتك اليومية؟ مثلاً، عندما تدفع كأس الماء الموضُوع أمامَك على المكتب، فماذا يحدثُ داخله، هل تتلامسُ ذرّات جسدك مع ذرّات الزّجاج لتدفعها للأمام؟

لا. ليس ذلك ما يحدُث. فالذرات لا تتلامسُ أبداً.

وضعَ نُيوتن ثلاثة قوانين تُفسِّر حركة كلِّ جسمٍ في الكون في سنة 1687، أهمُّ هذه القوانين هي أنَّ “التغيُّر في حركة الجسم يتماثلُ مع مقدار واتّجاه القوة الواقعة عليه” وأنَّ “لكُلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ مُساوٍ لهُ في المقدار ومُعاكسٌ له في الاتجاه”. يُمكن إسقاطُ القانون الأوَّل على قوَّتي الدفع والشد، فعندما تدفع شيئاً أو تسحبُهُ فأنتَ تجعلهُ يُغيّر اتجاهه ويزيدُ سرعته بمقدارٍ يتناسب مع قوتك. وأما القانون الآخرُ فهو مُماثلٌ لما يحدث عندما تضعُ كأساً على الطّاولة، فذلك الكأس يتعرَّض لقُوَّة تسحبُه إلى الأسفل بفعلِ وزنه، لكنَّ الطاولة تُؤثر عليه بقُوَّة مُساوية نحو الأعلى، فيبقى مُستقراً بمكانه ببساطة. استُخدم هذان القانونان بالإضافة إلى واحدٍ ثالث، لتفسير جميع حركات الآلات والأجسام الميكانيكية في العالم، وكان لها دورٌ جوهريٌّ في اختراعات الثورة الصناعية وغيرها.

اصطلحَ على تسمية هذه القوى في عصر النَّهضة بـ”القوى الميكانيكيَّة”، ولا زالَ هذا الاصطلاح يُستَعمل حتى الآن، لكنَّنا نعرفُ في الوقت الحاضر أنَّه غيرُ دقيقٍ تماماً.

unnamed

حسب العلم الحديث، تُوجد أربعة قوى معروفةٌ لنا في الكون فحسَبْ، وهي جميعاً تُؤثّر على الأجسام “عن بُعد”، أي أنَّها تعملُ عبرَ مجالات طاقةٍ غير مرئيّة. هل تذكرُ الخُطوط المُقوَّسة التي كنت تراها مرسومةً حول المغناطيس في الكُتب المدرسية؟ هذا مثالٌ على مجالٍ للطاقة، فأيُّ شيءٍ يقتربُ من هذه الخطوط سوف يخضعُ لتأثير قوّضة المغناطيس، سواءً بالدفع أو السَّحْب. القوى الأربعةُ التي تصنع المجالات في كوننا هي: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية الشديدة والضعيفة.

إذاً، ماذا يحدثُ عندما تُمسك بفُنجاج شاي أو كتابٍ بقُربك؟ قد تعتقدُ أنَّ يدك مُتلاصقة مع هذه الأشياء، لكنْ على المُستوى الذريّ، سوفَ تبقى دائماً مسافةٌ ضخمة تفصلُ بين ذرّات يدك وذرّات هذه الأجسام. فما يحدثُ في الحقيقة هو أنَّ المجالات الكهرومغناطيسية أو النووية حول ذرَّاتكُما تتنافرُ أو تتجاذبُ فتجعلها تبتعدُ عن بعضها أو تتقاربُ دُون أن يحدث بينها تلامسٌ فعليّ.

هذه المجالات غير المرئيَّة من الطاقة تُحرِّك كلَّ شيءٍ في الكون. فهي المسؤولةُ عن جميع قوى السَّحب والدَّفع، والآلات الميكانيكية، ومُولِّدات الطاقة، وكذلك دوران الأرض حول الشّمس، وهي أصلُ كل حركةٍ تحدث في أيّ مكانٍ بالعالم.

لماذا تتغيّر حركةُ الأشياء؟

عندما نشرَ نُيوتن قوانينه الثلاثة في الحركة سنة 1687، كان أوَّلُها ينصُّ على أنَّ “الجسمَ يحتفظُ بحالته، سواء كانت السكون أو الحركة بسُرعة ثابتة، ما لم يُؤثّر عليه عاملٌ خارجي”، يُسمّى هذا القانون أيضاً القصور الذاتي، وهو واحدٌ من أهمِّ القوانين الفيزيائية.

عندما يُطلق رامٍ سهماً في الهواء، ومهما كانت ذراعُه قويَّة وعضلاتُه مفتولة، فإنَّ السهم سيسقطُ إلى الأرض، عاجلاً أو آجلاً، بعد أن يقطعَ بضع عشراتٍ أو مئاتٍ من الأمتار.لكن الرَّامي كان قد وضعَ داخل سهمِه طاقة حركيَّة كبيرة، وإذا ما سقطَ السهم إلى الأرض، فذلك يعني أن كلَّ طاقته قد اختفت، فلماذا يحدثُ ذلك؟

السَّببُ هو دائماً وُجود عاملٍ يُؤثّر بقُوّة مُعاكسة أو باتجاه مُختلف يجعلُ الأشياء تتوقَّف عن الحركة. في حالة السهم، فإنَّ هذا العامل هو مُقاومة الهواء، فكُلَّما أرادت جُزيئات السَّهم قطع مسافةٍ أكبر من الجوّ سيكونُ عليها الاحتكُاك بذرّات الهواء ودفعُها جانباً، ولكي تفعلَ ذلك فإنَّ عليها نقلَ جزءٍ من طاقتها الحركية إلى ذرات الهواء لتستطيع تلكَ الابتعادَ عن طريقها، وسُيؤدّي ذلك إلى انخفاض سرعة السَّهم لأنَّه تبرَّع للهواءِ بجُزءٍ من طاقته. بعد فترةٍ من الوقت، سيكون السهم قد خسرَ مُعظم سرعته، وسيبدأ بالهُبوط نحو الأرض أو يرتطمُ بشيءٍ ما.

لكن، إن كانت هذه التجربة قد أُجرِيَتْ في الفراغ، فإنَّ نتائجها ستختلفُ كُلياً.

لو كان كونُنا فضاءً خاوياً لا يحتوي على أي نوعٍ من المادة، وحاولتَ أن ترمي فيه سهماً، ومهما كانت عضلاتُك ضعيفة ورميتك سيّئة، فإنَّ السهم الذي تُلقيه سيستمرُّ بالتحليق في الفضاء إلى الأبد، فليسَ هناك سببٌ يمنعُه من ذلك. طالما لا تُوجد مُقاومة أو قوى تؤثر بالسَّهم باتجاهٍ جديد، فلا يُوجد شيءٌ سيجعله يفقدُ طاقته الحركية.

space-baseball-terry-virts

لكن في عالمنا تُوجد في العادة الكثيرُ من العوامل التي تُؤثّر على الأجسام المُتحرّكة، مثل الاحتكاك بالهواء أو الماء أو الاصطدام بالموادِّ الصُّلبة، ولذلك يصعبُ على أي شيءٍ أن يظلَّ مُتحرّكاً لفترة طويلة. وهذه هي الفكرة التي يُحاول قانون القصور الذاتي شرحَها، بالإضافة إلى نتائجها. حسبَ هذا القانون، لدى كلِّ جسمٍ وضعٌ ثابت يميلُ إلى البقاء فيه، ولن يُغيِّره إلا لو خضعَ لتأثيرٍ قويّ بما يكفي من قُوّة أخرى.

على كوكبِ الأرض، تميلُ معظم الأشياء غير الحيَّة إلى البقاء في حالةٍ من السّكون. الصّخور والحجارة والجبال والأبنية تبقى في مكانِها مُعظم الوقت، إلا لو بذلَ شيءٌ الجُهْد لتحريكها. ويُمكنك بسهُولة أن تدفع حجراً بقدمك أو ذراعك لتجعلهُ يدخل في حالة حركةٍ لوقتٍ قصير، لكن عليك بذل جُهدٍ شديد لدفع صخرة كبيرة، وسيستحيلُ عليك تماماً إحداث أيّ تأثيرٍ على مبنى سكنيّ. هذا الاختلافُ بين الحجرة والصخرة والبناية هو ما يُسمّى في الفيزياء “القصورَ الذاتي”، ويُمكنك تخيُّلهُ على أنَّه مقدار مُمانعة جسمٍ لمُحاولة تحريكه.

وبالمِثْل، فإنَّ الأجسام التي لها قصورٌ ذاتيٌّ كبير يعصبُ إيقاف حركتها بنفس مقدار صُعوبة تحريكها. فمن السَّهل عليكَ أن تُدحرج حصاةً صغيرة ثُمَّ تضع يدك أمامها لتُوقفها، لكن لو سقطتْ صخرة كبيرة بقُربك فإنَّ مُحاولة إيقافها عن التَّدحرجُ ستتطلَّب المُخاطرة بحياتك. يرتبطُ القصور الذاتي للأجسام مُباشرة بكتلتها، وقد يبدو مفهوماً شبيهاً بالوزنِ إلى حدٍّ ما، إلا أنَّ له تأثيراتٍ أكثر تعقيداً.

ظُهور فكرة التطوّر:

كنتُ قد كتبت من قبل على هذه المدوّنة مقالةً مُفصَّلة عن نظرية التطور، ومع أنَّ البعضَ قد يعتقدُ أن هذا الموضوع جدليٌّ أو لا يستحسنُ الخوض فيه، إلا أنِّي لا أظن أنَّه يقبل الجدل على الإطلاق، ففي الواقع، هو الآن جزءٌ جوهري من العِلْم الحديث، وكتاب “أفكار العِلم العظيمة” يُساعد على إيضاح السَّبب.

في الماضي البعيد، لم يكُن لدى العُلماء سببٌ للتفكير بالتطوّر أصلاً، لأنَّهم لم يهتمُّوا بوُجود تفسير علمي لأي شيء يتعلَّقُ بالحياة، وفي الحقيقة فإنَّ ذلك كان ينطبقُ على أشياء كثيرة أخرى، فالعلماءُ القدامى لم يُفكّروا أيضاً بوُجود تفسير لتكوّن الشمس، أو الأرض، أو القمر، أو تغيُّر القارات (التي لم يعرفوا أصلاً أنها تتغيَّر)، بل ولم يُدركوا أصلاً أن السَّماء كانت جُزءاً من نفس الكون الذي تُوجد فيه الأرض.

ببساطة، ظنَّ العُلماء أنَّ مُعظم الظواهر الأساسية في الطبيعة هي أشياءٌ كانت موجودةً دائماً ولا مجالَ للتفكير بها أو مُناقشتها. فقد تُدهَش لو عرفتَ أن الجيولوجيِّين في القرن السّابع عشر اعتقدوا أنَّ عُمر كوكب الأرض يربو من ستة آلاف سنة.

لكنَّهم كانوا مُخطئين جداً.

بدءاً من سنة 1760، بدأ عُلماء الجيولوجيا، وأوَّلهم جورج دي بيوفون، بالقول أنَّ الأرض قد تكونُ قديمة جداً. أثبتت الدراساتُ خلال السنوات اللاحقة أنَّ عُمر الأرض كان أطول بكثيرٍ ممَّا تجرَّأ أيُّ أحدٍ على التفكير به من قبل، ونحنُ نعرف الآن أنَّه يزيدُ عن أربعة مليارات عام.

غيَّرَتْ هذه الحقيقةُ أموراً كثيرة، فلوْ كانت الأرض كوكباً قديماً، فإنَّ الحياة رُبّما لم تكُن موجودة عليها دائماً، ولعلَّ الزمن سببَّ لها تغيُّراً مثل غيَّر كلَّ شيءٍ آخر في طبيعة كوكبنا من جبالٍ ومُحيطات وتضاريس أخرى.

كان أوَّل من طرح تفسيراً علمياً يشرحُ تغيَّر الحياة هو العالم الفرنسي جين بابتست دي لامارك، فقد نشرَ في عام 1809 بحثاً اقترح أنَّ الكائنات الحية رُبَّما كانت تتغير بسببِ مُيول مُعيَّنة ليس عندها إدراكٌ لها. فمثلاً، قال لامارك بأنَّ بعض الظّباء رُبّما كانت تُفضّل الاقتيات على أوراق نباتٍ لا تنمو سوى على أشجارٍ مُرتفعة، وبالتالي احتاجتْ باستمرارٍ إلى مدِّ رُؤوسها ورقابها للوُصول إلى الأغصان العالية، فاكتسبت تدريجياً مِيزة الطول، حتى تحوَّلت إلى نوعٍ جديد هو الزّرافة.

وافترضَ لامارك في نظريَّته أنَّ الكائنات الحيَّة قادرةٌ على أن تُورّث لأبنائها الصّفات التي تكتسبُها خلال حياتها، وذلك يُشبه القول بأنَّ مخلوقاً فقد ذراعهُ أثناء حياته، قد يُنجب ابناً دُون ذراع. وقد أثبتت أبحاثُ الوراثة سريعاً أنَّ هذه الفكرة مُستحيلة، وسُرعان ما اندثرت نظرية لامارك.

1a2a6a2af5c78371a083574a4dcfdc48

لكن بعد خمسٍ وعشرين سنة، جاءَ تحوُّل كبيرٌ في تلك الفكرة البدائية. ففي ذلك العام ركب عالم أحياءٍ إنكليزي شاب، يُدعى تشارلز دارون، على متنِ سفينة كانت مُتّجهة في رحلة استكشافية إلى مجموعةٍ من الجُزر تُسمّى جزر الغالاباغوس، تقعُ قبالة سواحل أمريكا الجنوبية.

كان عملُ دارون هو دراسة وتصنيف الأنواع الحيَّة، وقد جمعَ عيّناتٍ من 14 نوعاً من العصافير المُغرّدة التي تعيشُ في الغالاباغوس وسجَّلَ أوصافها في سجلاّته بعناية، وما كان يقومُ به هو مهمَّة علميَّة بحتة.

لكنه لاحظَ شيئاً مُلفتاً أثناء تسجيله لأوصاف العصافير. فقد كانت جميعُ العصافير التي عاشتْ على تلك الجُزر متشابهةً جداً. في الحقيقة، كانت كُلَّها مُماثلةً تقريباً لأنواعٍ أخرى من العصافير تعيشُ في قارّة أمريكا الجنوبية، على مسافة 1,000 كيلومترٍ تقريباً، إلا أنَّ بينها جميعاً اختلافاتٍ بسيطةٍ جداً في أشكال مناقيرها. والأمرُ المُدهش هو أنَّ هذه الاختلافات ترافقتْ مع حقيقة أنَّ لكلِّ واحدٍ من هذه العصافير، نوعٌ مختلفٌ من الغذاء.

وعندها فكَّر دارون بشيء. فماذا لو كانتْ جميع هذه العصافير بالأصل نوعاً واحداً، وانقسمَت منهُ إلى مجموعاتٍ بسبب اختلاف أنواع غذائها؟ لم يزعم دارون أنَّ الكائنات تتغيَّر حسبَ رغبتها أو مزاجيّاتها، بل قال ببساطةٍ، أنَّها تستجيبُ لما توفّره لها الطبيعة. فعندما يكونُ لعصفورٍ ما منقارٌ مُناسبٌ أكثر بقليلٍ من بني جنسه لصطياد الحشرات، فمن الطبيعيِّ أن يميلَ للتغذّي على الحشرات أكثرَ من غيرها، لأنَّ لهُ أفضليَّة على غيره في الحُصول على هذا الغذاء، وبالتالي لن يتعرَّض للمُنافسة أو نقصٍ في الطّعام.
كانت هذه الفكرة بداية تحوُّلٍ هائلٍ في علم الأحياء، وهي الأساسُ الذي يقومُ عليها فهمُنا الآن لطبائع الكائنات الحيّة وطريقة تغيّرها في عالمنا.

قصَّة موجات الجاذبية


2-black-holes-gravitational-waves
تمثيلٌ لكيفيَّة انتشارموجات الجاذبية حول ثقبين أسودين يتقاربان من بعضهما تدريجياً، حتى يصطدما ويندمجان. كلُّ مرحلة يقترب فيها الثقبان أكثر تُسبِّب انبعاث موجة جديدة.

في عام 1992، أسَّس عالما الفيزياء الفلكية كب ثورن ورونالد دريفر من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) وبروفيسور الفيزياء رينر ويس من معهد ماساتشوتش للتكنولوجيا (MIT) مرصداً فيزيائياً كبيراً في ولاية لويزيانا الأمريكية، تحت اسم “LIGO”، وهو اختصار إنكليزي لعبارة مرصد التقاط موجات الجاذبية الليزري. جذب المشروع اهتمام عددٍ كبير من الجامعات والمعاهد العلمية في الولايات المتحدة، إضافةً إلى العديد من الدول المُتقدِّمة في البحث العلمي، حتى وصل عدد العاملين فيه والمسؤولين عن تشغيله إلى أكثر من 900 عالم من مُختلف المجالات. بدأ المرصد عمله الفعلي بعد عشر سنوات، ورُغم صرف قرابة المليار دولارٍ على تشغيله وصيانته، إلا أنَّه لم يأتِ بأيَّة نتائج. بفضل هذه التكلفة الهائلة، يُعتبر مرصد موجات الجاذبية واحداً من أكبر المشاريع العلميَّة التي موَّلتها حكومة الولايات المتحدة في تاريخها. لكن منذ سنة 2010 توقَّف عمل المرصد لإجراء صيانة وتطوير. في بداية العام الماضي استُبدلت أجهزة المرصد القديمة بأخرى أحدث بكثير، تُسمَّى “LIGO Advanced”. منذ ذلك الحين، لم تعلن مُنظَّمة “ليغو” عن أي نتائج جديدة من مرصدها، إلا أنَّ بعض الشائعات بدأت تحوم – مع بدء العام الجديد – عن تحقيق اكتشافٍ مهمٍ ما. تزايدت الشائعات باصطرادٍ على مرِّالأيام الأخيرة، حتى عُقد مؤتمر صحفيٌّ يوم الخميس الفائت، أعلن فيه رسمياً عن التقاط أوَّل موجة جاذبية في تاريخ العلم.

ما هي موجات الجاذبية؟

ptas
تُمثل هذه الصورة التصوُّر الذي وضعه آينشتاين عن كيفية عمل قوة الجاذبية، حيث أنَّ لكل جسمٍ مجالاً جذبياً يتناسب مع كتلته يُتسبَّب بانحناء الفضاء حوله، وجذب الأجسام الأخرى باتجاهه.

يعود تاريخ مفهوم أمواج الجاذبية إلى مطلع القرن الحالي. فقبل القرن العشرين، كان مُجتمع علماء الفيزياء لا يزال مُستسلماً للتصور القديم الذي وضعه نيوتن عن قوة الجاذبية، ولم يفكر أحدٌ بوضع نموذجٍ بديل عنه. لم تتغيَّر هذه الحال حتى نشر الفيزيائي الألماني المتخرج حديثاً، ألبرت آينشتاين، بحث النسبية الخاصة في سنة 1905، الذي أتبعه بالنسبية العامة بعدها بعشر سنوات. أثبتت نظرية النسبية نجاحاً باهراً في تفسيرها لطريقة عمل الجاذبية، فقد أثبتت التجارب خلال السنوات اللاحقة صحَّة مُعظم المفاهيم والتصورات قدمتها. كانت إحدى التصورات الجديدة الأساسية التي وضعتها نظرية آينشتاين عن الجاذبية هي أنها قوة تأثيرها محدود بامتداد مجالها، فمثلما أن لأسلاك الكهرباء والمغناطيسات مجالاتٍ حولها تنقل قوتها، فإن للجاذبية أيضاً مجالاً مماثلاً ولا يُمكنها أن تحدث تأثيراً على جسمٍ إلا لو وقع ضمنه. على سبيل المثال وحسب التصور القديم لنيوتن، إذا ما حدث وأن اختفت الشمس فجأة في أحد الأيام فإنَّ الأرض ستخرج من تأثير جاذبيتها على الفور وتبدأ بالانجراف في الفضاء بحُريَّة. لكن وفق نظرية آينشتاين، لا يُمكن لجاذبية الشمس أن تفقد تأثيرها على الأرض حتى تخرج من مجال الشمس الجذبي، وهذا المجال ينتشر عبر الفراغ بسُرعة الضوء. بما أنَّ بين الأرض والشمس مسافة 150 مليون كيلومتر، أي 8 دقائق ضوئية تقريباً، فحتى لو حدث وأن اختفت الشمس من عالمنا فجأة، ستسمرُّ الأرض بالدوران على وتيرتها المُعتادة لمدة ثماني دقائق.

الآن، ولفهم عمل موجات الجاذبية، دعنا ننتقل قليلاً إلى الذرات. على الأرجح أنَّك تذكر أن نواة الذرة مُكوَّنة من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات محايدة، وتُحيط بهذه النواة إلكترونات سالبة تبقى قريبةً من النواة بسبب انجذابها نحو البروتونات المتضادة معها في الشحنة. الشيء الذي يجعل الإلكترونات ترتبط بالبروتونات هو المجال الكهرومغناطيسي، وهو يُطابق في عمله مجال الجاذبية تقريباً، فهو ينتشر في كل الاتجاهات بسُرعة الضوء، ولا يُمكن للقوة الكهرومغناطيسية أن تحدث تأثيراً إلا من خلاله. هذه كلها مجالات، أين يأتي دور الموجات إذاً؟ إن كل إلكترون حول نواة الذرة له مستوى طاقة مُعيَّن، والمسافة التي بينه وبين النواة تتناسب طردياً مع مستوى الطاقة هذا، فالإلكترونات الأقرب إلى النواة لها طاقة أقل. لكن عندما تتعرَّض الذرة لحالة إثارةٍ ويزداد مستوى الطاقة فيها، يُمكن أن يقفز إلكترون إلى مستوى طاقة أعلى من مستواه الأصلي، وذلك يجعل حالة الذرة غير مستقرة. لذا، بعد مضي فترةٍ من الوقت سيعود الإلكترون إلى مستوى طاقته الأصلي، بعد أن يتخلَّص من طاقته الزائدة على شكل فوتون يُطلقه بعيداً عن الذرة. هذا الفوتون هو المُكوِّن الأولي لأشعة الضوء، أو – بعبارةٍ أخرى – الموجات الكهرومغناطيسية.

figure05-21b
ينبعث الفوتون من الذرة عندما يرتفع مستوى طاقتها عن الحد الذي يجعلها مُستقرَّة. تنبعث موجات الجاذبية بطريقة شبيهة جداً.

نفس هذه الظاهرة تقريباً يُمكن أن تحدث في حالة الجاذبية. فمجالات الجاذبية تدفع الأجسام في الفضاء للدوران حول بعضها، وكلما اقترب جسمان من بعضهما، كلما اقتربت الأرض من الشمس مثلاً، ستخضع لتأثير أقوى من مجال جاذبية الشمس، ولذلك ستزداد سُرعة دورانها حولها. لكن الأرض تقترب وتبتعد عن الشمس باستمرارٍ على مرِّ السنة لأن مدارها بيضاوي الشكل، ولذلك بعد مضي مُدَّة من الوقت، سرعان ما ستبتعد ثانية، وعندها ستتباطأ سرعتها، وسوف تطلق طاقتها الزائدة على شكل موجة جاذبية. ستنتشر هذه الموجة عبر الفضاء بسُرعة الضوء نحو جميع الاتجاهات، تماماً مثل الأمواج الكهرومغناطيسية.. أي الضوء نفسه. على عكس موجات الضوء التي تكون عادةً أصغر حجماً بكثير من مصدرها، بحيث أن طولها لا يتجاوز عدَّة كيلومتراتٍ على الأكثر وفي بعض الأحوال يكون أقصر من قطر الذرة، فإنَّ موجات الجاذبية تكون أضخم بكثيرٍ من المصدر الذي تنبعث منه، حيث يُمكنها (نظرياً) أن تكون بحجم كوننا بأكمله، بل من المُمكن أن تتجاوز في حجمها حجم الكون، لولا أنَّ ذلك سيجعل الإحساس بها أو اكتشافها مستحيلاً علينا.

من أين تأتي أمواج الجاذبية؟

قد تكون قرأت في بعض الصفحات العلمية عن مصدر موجات الجاذبية، رُبَّما مرَّ عليك أنها تنبعث من اندماج ثقوب سوداء أو تصادم نجوم نيوترونية أو أشياء غريبة كهذه، لكن ذلك على الأرجح أعطاك الفكرة الخاطئة عن هذه الموجات. بالحقيقة، أمواج الجاذبية منتشرةٌ في الكون بقدر ما هو الضوء منتشر: ومثلما أن الضوء هو موجة منبعثة من تفاعلات القوة الكهرومغناطيسية، فإنَّ موجات الجاذبية تنبعث من تفاعلات تجاذبية، بحيث أنَّ جذب الأرض لجسدك قادرٌ لوحده على إصدار أمواج جاذبية تحت ظروفٍ ما. لماذا إذاً لم تسمع عن انبعاث هذه الموجات إلا عند وُقوع ظواهر غريبة في الفضاء البعيد، مثل انفجار النجوم أو دوران الثقوب السوداء بسُرعاتٍ فائقة حول بعضها؟ السبب ليس أن أمواج الجاذبية لا تصدر إلا من ظواهر كونية نادرة، بل لأننا لا نستطيع أن نلتقطها إلا عند انبعاثها من تلك الظواهر.

binary-black-hole-collision-ligo-sxs
مع أنَّ موجات الجاذبية موجودة في كل مكانٍ حولنا، إلا أنَّها ضعيفة جداً بحيث أن الإحساس بها بتقنيتنا الحالية أمرٌ مستحيل. الأجهزة المتوافرة لنا حالياً لا يُمكنها التقاط هذه الموجات إلا عندما تصدر عن ظواهر عنيفة جداً، مثل اندماج ثقبين أسودين (هذه الصورة مُجرَّد تمثيل بسيط، فتصوير الثقوب السوداء أمر مستحيل).

حسب تصورنا الحالي عن الكون، توجد أربع قوى فيزيائيَّة رئيسيَّة تحكم كل التفاعلات التي نراها من حولنا، هذه القوى هي: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة، والشديدة. إجمالاً، تُعتبر القوة الكهرومغناطيسية القوة المُسيطرة على التفاعلات الفيزيائية على مستوى الذرات والجسيمات تحت الذرية، بينما تسيطر الجاذبية على التفاعلات بين الأجسام الكبيرة في الكون مثل الكواكب والنجوم. يُمكن تمثيل ذلك بأنَّ الجاذبية، رغم أنها قوة تؤثر على أي جسمين لهما كتلة، لا تلعب أي دورٍ يذكر بربط الجزيئات والذرات في عالمنا. فالقوة الكهرومغناطيسية هي التي تربط الإلكترونات بنوى الذرات، وأما القوى النووية الضعيفة فهي التي تجمع بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة. أما الجاذبية فليس لها دورٌ يذكر في ربط مكونات الذرة ببعضها بعضاً، وذلك لأنها قوة كونية ضعيفة.

فكر بالأمر، هل سبق وأن شعرت بأي تأثير للجاذبية على حياتك اليومية؟ نظرياً، جسمك يؤثربقوة جذبٍ على لوحة المفاتيح القابعة أمامك، وعلى الشخص الجالس بجانبك، وكذلك على البناء الذي تجلس فيه. لكن هذه القوة صغيرة جداً بحيث يستحيل أن تشعر فيها (مع العلم أن ثمَّة عوامل أخرى على سطح الأرض ستجعل ملاحظة تأثير هذه القوة عليك شبه مستحيلة). مع ذلك، لولا قوة الجاذبية لكنا نطفو الآن في الفضاء. هنا يكمن الأمر: فلكي تشعر بأي أثر لقوة الجاذبية، عليك أن تتعامل مع أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. فمع أنَّ قوة الجاذبية لا تكاد تحمل أي تأثير على الذرات والجزيئات الصَّغيرة، إلا أنها هي القوة الأساسية التي تربط كل الأجسام الكبيرة في الكون تقريباً. فنحنُ متعلقون بالأرض، والأرض مرتبطة بالشمس، والشمس مرتبطة بمركز المجرة، والمجرة مرتبطة بالمجموعة المجرية المحلية، فقط بفضل الجاذبية.

بالعودة إلى النقطة الأولى، مثل جميع تأثيرات قوة الجاذبية، فإنَّ موجات الجاذبية الصَّادرة عن التفاعلات بين الأجسام المُحيطة بنا تكون في مُعظم الأحوال صغيرة جداً، أصغر ممَّا يُمكنك أن تتخيل بأي حال، بحيث أن الإحساس بها في مُعظم الأحوال مستحيلٌ حتى بأكثر التقنيات المتوافرة لنا تطوراً وتقدماً. حسب مثالٍ أعطاه فيزيائي من مُنظمة “ليغو” (المنظمة التي حققت الاكتشاف)، لو كان لدينا جسم يمتد من الشمس حتى أقرب النجوم إلينا، وهو نجم بروكسيما القنطور، أي على امتداد مسافةٍ تعادل نحو 25 ترليون كيلومتر، ومرَّت عبره موجة جاذبية قويَّة صادرةٌ عن تصادم ثقبين أسودين مثلاً، فإنَّ تأثيرها عليه سيقتصر على ضغطه بمقدارٍ يُماثل سمك شعرة من رأس إنسان.

لهذا السبب، نحن لسنا قادرين بالتقنية المتوافرة لنا الآن على التقاط أمواج الجاذبية أو الإحساس بها إلا عند وُقوع ظواهر كونيَّة نادرة شديدة العُنف، تُسبِّب تفاعلاتٍ شديدة بين أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. بما أنَّ الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية هي من بين أعلى الأجسام كتلةً في الكون وأكثرها كثافة، فإنَّ لها قوة جاذبية هائلة تجعلها مرشحات ممتازةٍ لإصدار موجات جاذبية يُمكننا التقاطها بتقنياتنا الحالية. من المُحتمل أن نستطيع في المستقبل البعيد رصد أمواج الجاذبية الصَّادرة عن تفاعلاتٍ بسيطة، مثل دوران الأرض حول الشمس أو التجاذب بين الأرض والقمر، لكنَّ ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر.

كيف تمكن العلماء من اكتشاف شيءٍ مثل هذا؟

مع أنَّ الفزيائي الألماني ألبرت آينشتاين تنبأ بوُجود موجات الجاذبية قبل أكثر من 100 عام، إلا أنَّه اعتقد بالحقيقة أنها لن تكتشف أبداً، لأن “التقاطها مستحيلٌ بالنسبة إلينا”. في الواقع أيضاً، مع أن آينشتاين كان أول من اقترح وُجود هذه الموجات عندما طرح نظرية النسبية العامة، إلا أنَّه غير رأيه ونفى وجودها في ورقة نشرها سنة 1936.

صدرت الموجة التي تحقَّق بفضلها اكتشاف موجات الجاذبية من اندماج ثقبين أسودين وقع قبل 1.3 مليار سنة، أي عندما كانت لا تسكن كوكب الأرض سوى بكتيريا وحيدة الخلية، لكنَّ هذا الحدث وقع على مسافةٍ بعيدة جداً عنا بحيث لم تصل أمواج الجاذبية الصَّادرة عنه (والتي تسير بسُرعة الضوء) إلينا حتى شهور قليلة من الآن. التقطت أجهزة “LIGO” الموجة الصَّادرة عن اندماج الثقبين في 14 سبتمبر الماضي، حيث دام تأثيرها على الجهاز لمدة 0.2 ثانية تقريباً. سجَّلت أجهزة الحاسوب عُبور الموجة خلال ثلاث دقائق، لكنَّ تحليل البيانات والتأكُّد من صحتها أخذ عدَّة شهور. يعتبر مصدر هذه الموجة أعنف حدث رصدته البشرية في التاريخ، فقد كان الثقبان الأسودان يدوران حول بعضهما بسُرعة تتعدَّى 60% من سرعة الضوء قبل انبعاث الموجة مباشرة، وأدى تصادُمهما إلى إطلاق كميَّة من الطاقة تعادل 50 ضعف الطاقة التي تُشعِّها جميع نجوم الكون مُجتمعة. حوَّل الاصطدام كميَّة من المادة تماثل في كتلتها ثلاثة أضعاف كتلة الشمس إلى موجة جاذبية هائلة تعبر الفضاء بسُرعة الضوء، وتُسبِّب تموُّجاً في نسيج الفراغ الذي تمرُّ من خلاله.

ligo
ما تراه أمامك هو المرصد الذي اكتشف موجات الجاذبيَّة! هذه الأنابيب البيضاء الطويلة هي أنفاقٌ يمتد كل واحدٍ منها مسافة أربعة كيلومترات، يوجد عند نقطة التقائها جهاز يبعث شعاعاً من الليزر. يعبر الليزر كل نفقٍ بأكمله حتى ينعكس على مرآة في طرفه البعيد ويعود مرَّة أخرى.

لعلَّ أكثر جزءٍ مدهشٍ من اكتشاف موجات الجاذبية هي الطريقة التي تحقَّق بها الاكتشاف، فقد تطلَّب الأمر استعمال جهازٍ يُمكن أن يكون واحداً من أدق الآلات التي اخترعها البشر. يتكوَّن الجهاز الذي صمَّمته منظمة “ليغو” للالتقاط أمواج الجاذبية (وهو يُسمَّى الـ”Interferometer”) من نفقين طول كل واحدٍ منهما أربعة كيلومترات، يلتقيان عند أحد الطرفين. قرب نقطة الالتقاء يوجد جهاز يبث شعاعاً من الليزر، يمرُّ هذا الشعاع أولاً عبر منشورٍ يقسمه إلى خطين متعامدين: كلٌّ منهما يذهب عبر أحد النفقين. عند نهاية كلِّ نفق توجد مرآة تُعيد عكس الشعاع نحو نقطة انبعاثه. عندما يعود شعاعا الليزر إلى نقطة انبعاثهما يلتقيان في نفس النقطة وعند نفس التوقيت تماماً، وبما أنَّ كليهما يتكوَّنان من موجات كهرومغناطيسية متماثلة الطول والتردد، فإنَّهما يُلغيان بعضهما كلياً، ولذلك تختفي جميع أشعة الليزر العائدة من النفقين عندما تصطدم بالمنشور. أو هذا ما يُفترض أن يحدث تحت الظروف الطبيعية.

screen20shot202016-02-1120at208-23-5720am
هكذا يبدو الـ”Interferometer” من الداخل تقريباً. يبث الجهاز الأسطواني في الأسفل شعاعاً من الليزر، ينقسم عنده مرور بمنشورٍ إلى جزئين، ينعكسان في نهاية كل نفقٍ ليعودا ويلتقيا معاً، وعندها يلغيان بعضهما. لو مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز ستغيِّر أطوال الشعاعين، ولذلك سيتمكَّن أحدهما من عبور المنشور والوصول إلى لاقط الضوء مُربَّع الشكل.

إذا ما حدث وأن مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز، ستتغيَّر أطوال شعاعي الليزر. فعندما تمرُّ موجة جاذبية عبر مادة أو وسطٍ من أي نوع، تُسبِّب تمدداً أو تقلُّصاً صغيراً فيه، ولذلك فإنَّ مرورها بشعاع الليزر سيجعل موجاته أقصر أو أطول قليلاً. هذا التغير بسيط جداً، بحيث أنَّ طول الشعاع سينقص أو يزداد بمقدارٍ أقل بكثير من حجم ذرة، لكنه سيحدث تأثيراً مُهماً: فعندما يلتقي شعاعا الليزر عند المنشور، لن يلغيا بعضهما هذه المرة، لأن أطوال موجاتهما أصبحت مختلفة. لهذا السبب، سيتمكَّن جزءٌ من الليزر من عبور المنشور، وسيلتقطه على الفور مستشعرٌ عالي الحساسية. يُمكن أن يعبر الليزر المنشورعدَّة مرَّاتٍ أثناء اصطدام موجة جاذبية به. في 14 سبتمر الماضي، تسبَّبت موجة الجاذبية التي اصطدمت بهذا الجهاز بعبور الليزر 8 مرَّات متتاليةٍ خلال مدة لا تتعدى 0.2 من الثانية.

ما فائدة هذا الاكتشاف إذاً؟

fermi_3_month_labeled_new-large
يُمكن للعلماء رصد السَّماء بطُرق مختلفة، منها التقاط أشعة غاما كما في خريطة السَّماء هذه، لكن جميع هذه الطرق تنحصر بأنواع مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسية، فقد كان الضوء (حتى وقتٍ قريب!) طريقتنا الوحيدة للتعرُّف على الكون.

لكي أكون شفافاً معك، يمكنني القول أنه بالنسبة إليك.. لن يُحدث هذا الاكتشاف أي تأثير ذا قيمة على حياتك أو حياة أي إنسانٍ في أي وقتٍ قريب. بالأساس، نحنُ لا نعرف أي تطبيقات تكنولوجية قيِّمة حالياً لهذا الاكتشاف، وقد لا نجد أي تطبيقاتٍ له في المُستقبل. بالنسبة للعلم، فإنَّ قيمته هي في زيادة معرفتنا عن الكون المُحيط بنا فحسب. حتى الآن، كل ما نعرفه عن الفضاء الخارجي يقتصر بالكامل تقريباً على الأمواج الكهرومغناطيسية التي نرصدها من الأجسام البعيدة، هذه الأمواج يُمكن أن تكون ضوءاً مرئياً أو أشعة سينية أو أشعة غاما أو أمواجاً راديوية، وعلى أي حال، فهي العدسة الوحيدة التي أمكننا حتى الآن أن ننظر إلى الكون من خلالها. أما الآن، فقد حصلنا على أداةٍ جديدةٍ تماماً ولأول مرة في التاريخ نستطيع جمع المعلومات عن كوننا عبرها. ليس ذلك فقط… بل إنَّ هذه الأداة قد تكون المفتاح لفهم ظواهر كونيَّة لا يُمكننا التعرُّف عليها عبر الضوء أصلاً، مثل الثقوب السوداء.

مُعظم الأجسام الواقعة في الفضاء الخارجي تبعد عنا مسافاتٍ هائلةٍ جداً، بحيث أن إلسفر إليها أو حتى إرسال المركبات الاستكشافية يغدو مستحيلاً أو شديد التكلفة عند نقطة ما. حتى الآن، لم يسافر أي بشري لمسافة أبعد من من القمر، أي نحو 385 ألف كيلومتر من الأرض، كما لم تصل إلينا أي عيِّنة فضائية من مكانٍ أبعد من القمر سوى بعض المذنبات والكويكبات. أما أبعد مسافة ابتعدتها مركبة فضائية بشرية الصُّنع فهي فوياجر 2 التي قطعت نحو 16 مليار كيلومتر بعد 40 سنة من إطلاقها، وهو ما يُعادل أقل من 0.03% من المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا. لهذه الأسباب كلها، فإنَّ الطريقة الوحيدة المتاحة لنا لدراسة الكون تقريباً هي الضوء الذي نلتقطه منه، الضوء الذي يسافر مئات وآلاف السنوات ليَصل إلينا فقط. قد تعتقد أن تنوُّع مصادر الضوء يُمكن أن يصنع فرقاً، لكن الواقع هو أنَّه وبعدم وُجود وسيلة للنظر إلى الكون سوى الضوء يجعلنا محدودين بخواصه، ومن هذه الخواص أنَّه لا يسير سوى بخطوطٍ مستقيمة، وأنه يمكن أن ينعكس أو يمتصَّ بسهولة إذا ما اصطدم بمادة ما أثناء مجيئه إلينا.

mount_pleasant_radio_telescope
مع أنَّ الوقت مُبكِّر قليلاً لتخمين نتائج هذا الاكتشاف، لكنَّه قد يحدث ثورة نوعيَّة في علم الفيزياء الفلكية، وقدرتنا على دراسة الكون من حولنا.

أحد أبرز الأمثلة على الحالات التي نعجز فيها عن جمع معلومات عن الفضاء هي الثقوب السوداء. هذه الأجسام لها كتلة ضخمة وكثافة شديدة جداً بحيث أنَّها تمنع أي مادة نعرفها من الهرب من مجال جاذبيتها، بما في ذلك أشعة الضوء. كما أنَّ رصد الكثير من المجرات والنجوم يُمكن أن يكون صعباً أو مستحيلاً بسبب وُجود أجسام أخرى أمامها تحجب ضوئها عنها. هذه العقبات تجعل فهمنا للكثير من الأجسام الغريبة في كوننا محدودة، إلا أنَّ اكتشاف موجات الجاذبية – وتطور قدرتنا على رصدها – يُمكن أن يفتح مجالاً جديداً أمامنا. على عكس الموجات الكهرومغناطيسية، لا تتأثر موجات الجاذبية على الإطلاق بالوسط الذي تمرُّ من خلاله، لذلك عندما تصلنا موجة جاذبية مُنبعثةٌ من ثقب أسود يُمكننا التأكد من أنها تحمل معلومات دقيقةً عنه. كما أننا، على فرض أن تقنياتنا ستتطوَّر مستقبلاً، قادرون على التقاط موجات الجاذبية الصادرة عن أي جسمٍ في الكون، بغضِّ النظر عن طبيعته أو موقعه في الفضاء.

الأمر الآخر الذي يجعل العلماء متحمسين كثيراً لاكتشاف موجات الجاذبية هو أنها الحلقة الأخيرة غير المُؤكَّدة بعد في نظرية آينشتاين للنسبية العامة. فقد نجح العلماء حتى الآن بإثبات جميع المفاهيم المُهمة التي طرحتها هذه النظرية، وكانت هذه الموجات هي آخر مفهوم جوهري فيها لم يُثبَت تجريبياً بعد. إنَّ اكتشاف أمواج الجاذبية يعني أنَّ تصور آينشتاين عن قوة الجاذبية كان صحيحاً تماماً، ومع أنَّ معظم العلماء كانوا يتوقَّعون تحقيقه عاجلاً أو آجلاً، فذلك لا يُقلِّل من أهميته الكبيرة لتعضيد فكرتنا عن الكون الذي نعيش فيه. مع أنَّ نظرية النسبية العامة أثبتت نجاحاً تاماً حتى الآن في جميع الاختبارات التجريبيَّة التي أمكن إجراؤها لها، إلا أنَّ طبيعة قوة الجاذبية وعدم سُهولة اختبار تأثيرها إلا في الفضاء الخارجي جعلت إمكانية تجريب نظرية آينشتاين فرصةً نادرةً جداً، لكننا الآن.. قد نكون حصلنا على مفتاحٍ جديدٍ ممتاز لدراسة هذه النظرية، ولفهم فيزياء الكون بأكمله.