هل يكتسب البشر المهارات بالتعلم أم بالموهبة الفطرية؟


بريان بيرغ يبني نموذجاً من أوراق اللعب.
بريان برغ، صاحب الرَّقم القياسي في العالم لأكبر بناءٍ من أوراق اللعب، وهو يبني مُجسَّماً لمعالم في مدينة واشنطن الأمريكية. استُخدمت في بناء هذا النموذج، الذي لا يظهر في الصورة سوى جانبٌ صغير منه، حوالي 75,000 بطاقة.

لعلَّك جربت بضعة مرَّات، على الأقل، خلال حياتك أن تشعر بصُعوبة مُعيَّنة تواجهك وأنت تحاول تعلُّم شيء جديد. ربَّما أحسستَ أنك بطيء جداً في حل مسائل الرياضيات، أو أنَّ قدرتك على استيعاب طريقة عمل آلة ما ليست جيِّدة كثيراً، أو حتى أنَّك ببساطة تفشل بالفوز في لُعبة حاسوب. لو حاولتَ مُمارسة أيَّة واحدة من هذه المهام وتكرارها عدداً من المرَّات، فلا بُدَّ وأن أدائك فيها سيتحسَّن، فستتمكَّن من الوصول في لعبتك إلى مراحل متقدِّمة أكثر، وستصبح قادراً على حل المسائل الرياضية بسُرعة أكبر، لكن هل هذا كافٍ؟ إلى أيِّ درجة يمكنك إتقان مهارة في الحياة بمُجرَّد تكرارها عدداً كبيراً من المرَّات؟ يقول مثل إنكليزي مشهور: «Practice makes perfect»، وهي عبارة تعني التدرب المُستمرّ على عملٍ ما لمُدَّة زمنية طويلة كفيلٌ بأن يجعلك مُتمكِّناً منه تماماً، لكن ذلك قد لا يكون صحيحاً بالضرورة، فالمسألة، في الواقع، أعقدُ بقليل من ذلك.

صادفتُ منذ مدَّة مقالة تتحدث عن تخلُّف نظام التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعو إلى إعادة هيكلته ليفتح مجالاً أكبر لإبراز مواهب الطلاب صغار السِّن، والتي – كما يرى كاتب المقال – تضيع الكثير منها في مرحلة مُبكِّرة دون أن تحصل على الفرصة لتنميتها وتطويرها. كانت التعليقات التي كتبها قُرَّاء المقالة مثيرة للاهتمام، وقد جذب أحدها انتباهي على وجهٍ خاص. كان صاحب التعليق يروي قصَّة عن نفسه: «مرَّة عندما كنتُ في الصف الرابع الابتدائي، طلب منا أستاذ اللغة الإنكليزية كتابة قطعة نثريَّة صغيرة ضمن فروضنا المنزليَّة. عندما أنهيت كتابة قطعتي وسلَّمتها لأستاذ المادَّة للتصحيح، انبهر بمستوى كتابتي، فأرسلني على الفور إلى مدير المدرسة، والذي أعجب بما كتبتُه إلى حدِّ شديد، لدرجة أنه كرَّمني ومنحني شهادة تقديريَّة، قائلاً لي أنَّي كنتُ أجيد الكتابة باللغة الإنكليزية بـ”مستوى طلبة الجامعات”». لكنَّ صاحب التعليق، يُتابع القصة: «ثم مرَّت السنوات، وأصبحتُ طالباً في الجامعة. ففوجئتُ بأنَّ الجميع أصبحوا الآن قادرين على الكتابة باللغة الإنكليزية بمستوى طلبة الجامعات».

قد تكون القصة فكاهيَّة قليلاً، لكنها أيضاً تُعبِّر عن واقعٍ جوهري، فلو كانت الموهبة الفطريَّة سبباً كافياً لتحقيق النجاح، لما اضطرَّ ذلك الفتى إلى ممارسة الكتابة على الإطلاق منذ تخرُّّجه من المدرسة الابتدائية، وكان سيُصبح – بالرُّغم من ذلك – كاتباً مهماً. لكن من الواضح أنَّ نقص الممارسة المُنظمة بإمكانه القضاء على الكثير من المواهب الطبيعيَّة قبل أن تحصل على فرصتها لتبرز. على سبيل المثال، من الواضح أن ألبرت آينشتاين لم يولد وهو قادر على كتابة معادلات الطاقة النووية، ومن المؤكَّد أنَّ ثوماس أديسون لم يكن يعرف كيفيَّة صُنع آلاتٍ كهربائية مُعقَّدة وهو طفلٌ في السَّابعة. مهما كانت الموهبة الطبيعيَّة قوية، فهي ليست قادرةً وحدها على جعل أي شخصٍ في العالم عبقرياً. الممارسة والخبرة والتدرب والعمل الشاق عوامل جوهريَّة في الحصول على النجاح بالنِّسبة لجميع الناس، مهما كانت قدراتهم الطبيعية تبدو متفوِّقة على الآخرين.

لكن، ما هو مقدار أهميَّة الدور الذي تؤديه الموهبة في مُساعدة لأشخاص الناجحين، في مُختلف المجالات، على تحقيق إنجازاتهم الكبيرة؟ الإجابة على هذا السؤال، في الحقيقة، ليست سهلةً على الإطلاق. فمُعظم الأشخاص الناجحين قضوا سنوات كثيرة وساعات طويلة من حياتهم في التدرُّب على مواهبهم قبل أن يحصلوا على الفرصة للنجاح فيها، فقد كان الروائي الأمريكي هرمان ملفل، مثلاً، يُكافح طوال عشرات السنين ليبيع كتبه في زمانه، إلا أنَّ اسمه انتشر بعد سنين طويلة من وفاته، عندما أثارت روايته «موبي دك» اهتمام العديد من النقاد الأدبيِّين في أمريكا واكتسبت شهرة هائلة لتبيع ملايين النُّسخ، ومع أنَّك قد تعتبر آينشتاين واحداً من أكبر عباقرة الفيزياء في التاريخ، إلا أنَّ درجاته بمادة الرياضيات في المدرسة كانت عاديَّة جداً، ولو اضطرَّ للعمل في مجال بعيد عن الفيزياء، فكان من المُمكن بسهولة أن لا يعرف أحدٌ بموهبته قط. من جهةٍ أخرى، توجد قصصٌ كثيرة عن علماء أبدوا نبوغاً وعبقريَّة منذ مراحل مبكرة في طفولتهم.

قاعدة الـ10,000 ساعة:

مالكوم غلادول مؤلف كتاب Outliers
مالكوم غلادول، مؤلِّف كتاب Outliers، يتحدث في مؤتمر Popteach! للأفكار الرَّائدة سنة 2008.

بدأت دراسة المنافسة بين الموهبة والممارسة الطويلة منذ وقت بعيد، فقد وضع الفيلسوف الإنكليزي جون لوك فرضيَّة «الحالة الافتراضية» منذ سنة 1690، والتي تزعم أن جميع الناس يُولدون بنفس المستوى من الإدراك والقدرات، ولا يتغيرون بعد ذلك إلا وفقاً للظروف والبيئة المحيطة بهم. نوقشت هذه الفكرة مراراً، من منطلقات فلسفية في جوهر الأمر، على مر القرون التالية، وبدأت تخضع للبحث العلمي منذ منتصف القرن الماضي. في سنة 1973، نشر عالم النفس وصاحب جائزة نوبل في الأدب هربرت سايمون نتائج بحث عن لاعبي الشطرنج، أظهر أنَّ فئة النخبة من لاعبي الشطرنج يحتاجون إلى استخدام 50,000 وحدة ذاكرة ليستطيعوا اللعب بمستوى احترافي، وهي مقدرة لا يستطيع الدماغ البشري اكتسابها إلا بمُمارسة مُكثَّفة طويلة الأمد. أظهرت بحوث أخرى أن قدرات الدماغ والذاكرة طويلة الأمد على استرجاع المعلومات بسُرعة وكفاءة، تؤدي دوراً جوهرياً في أداء المحترفين بالعديد من المجالات، وأنَّ ساعات التدريب الطويلة تلعب دوراً أساسياً في بُلوغ الأداء الاحترافي.

في سنة 2008 أصدر صحفيُّ كندي يدعى مالكولم غلادول كتاباً باسم Outliers: The Story of Success، الذي يستعرض فيه قصص نجاح عدد من الشخصيَّات الشهيرة في تاريخ الإنسانية، مثل بل غيتس وفرقة البيتلز البريطانية، ويُحاول دراسة العوامل التي قادتها إلى تحقيق إنجازاتها. مع أنَّ الكتاب تلقى مقداراً من النقد بسبب أسلوبه غير العلميّ في تناول بعض الأمور وبناء استنتاجات ساذجة عليها أحياناً، إلا أنَّه اكتسب شهرة كبيرة في وقت قصير، فقد تصدَّر قمَّة قائمة الأعمال الأكثر مبيعاً لصحيفة النيويورك تايمز لمُدَّة ثلاثة شهورٍ متتالية، ولعلَّه لعب دوراً مُهماً في توجيه اهتمام الباحثين وعامة الناس نحو مسألة المهارة والإبداع في السنوات الأخيرة. كانت واحدة من النظريات المثيرة للاهتمام التي طرحها الكتاب وتسبَّب بانتشار صيتها، هي ما يُسمَّى «قاعدة الـ10,000 ساعة»، لكن فكرة هذه القاعدة تعود، في الواقع، إلى دراسة علمية نشرت منذ سنة 1993.

تزعم قاعدة العشرة آلاف ساعة أنَّه، عندما يحاول أي شخصٍ في العالم اكتساب مهارة من نوعٍ ما، عليه التدرب عليها لمُدَّة لا تقل عن ثلاث ساعاتٍ يومياً على مدى عشر سنوات متتالية حتى يتقنها إلى درجة الاحتراف، أي بعبارة أخرى، عليه أن يصرف عشرة آلاف ساعة من حياته بمُمارستها مرَّة تلو الأخرى. حسبما تنصُّ القاعدة، ليس من الضروري أن يُصبح كل شخصٍ يصرف عشرة آلاف ساعة من حياته في التدريب على شيء مُعيَّن مشهوراً أو ذائع الصيت في مجاله، لكن جميع من حقَّقوا هذه الشُّهرة التزموا – حسبما تدعي النظرية – بهذا المقدار من التدريب كحدٍّ أدنى.

فرقة عازفي أوركسترا أسترالية من مدينة أديلادي.
كان أعضاء دراسة أندريس إريكسون الشهيرة، التي نشرت في سنة 1993، أربعين عازف كمان في فرق أوركسترا ألمانية على مستوياتٍ مختلفة الخبرة.

ظهرت فكرة قاعدة العشرة آلاف ساعة في بداية التسعينيات، عندما بدأ فريقٌ من علماء النفس في برلين بإجراء دراسة على عازفي الكمان المحترفين في عدة فرق أوركسترا ألمانية معروفَة، حيث ذهب الباحثون إلى العازفين، وسألوهم: «منذ طفولتكم، وحتى أصبحتم عازفين معتبرين في هذه الفرق، ما هو عدد الساعات التي قضيتموها بالتدرب على العزف كل يوم؟». أجريت الدراسة تحت قيادة الباحث السويدي أندريس إريكسون، وهو أستاذ جامعي مشهور بكونه باحثاً رائداً في مجال جديد في علم النفس يتعلَّق اكتساب الخبرة والمهارة، ويُسمَّى “Expertise studies”، وقد نُشِرَت دراسته في سنة 1993، تحت اسم The Role of Deliberate Practice in the Acquisition of Expert Performance، وتعني «دور الممارسة المُكثَّفة في اكتساب الأداء الاحترافي». اعتمدت الدراسة على مقارنة الوقت الذي يُقدِّر عازفو الكمان أنهم صرفوه بالتدرُّب منذ طفولتهم، مع مستوى أدائهم الفعليّ، فوجدت أنَّ مُعظمهم كانوا يبدؤون مُمارسة العزف وهم في الخامسة من عُمرهم، ويستمرون بالعزف لنفس العدد من الساعات أسبوعياً، وهو حوالي ساعتين إلى ثلاث ساعات، حتى يبلغوا سنَّ الثامنة. لكن مُنذ ذلك الوقت، تبدأ الأوقات التي يخصِّصونها للتدريب بالاختلاف بدرجةٍ كبيرة، ويختلف معها مستوى أدائهم صعوداً أو نزولاً. فالأفضل أداءً في سنوات شبابهم كانوا يعفزون لست ساعات أسبوعياً في عُمر التاسعة، ولثماني ساعات في الثانية عشرة، ولـ16 ساعة بعُمر الرابعة عشرة، وكانوا يصلون حدَّ العشرة آلاف ساعة من التدريب بحلول سنتهم العشرين. لا تقتصر هذه الساعات على المُمارسة البحتة للعزف، بل هي تشمل – بدرجة ما – كل الأنشطة المُتعلِّقة بالتعلم، مثل الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة النوتات، ومناقشة المادة مع أشخاصٍ آخرين.

بالنسبة لجميع العازفين الذين تضمَّنتهم الدراسة، كان مستوى مهارتهم متوافقاً تماماً مع عدد مُعيَّن من الساعات قضوها بالتدرُّب، دون أن يختلف عدد ساعات التدريب بأي مقدار ذي قيمة لأشخاص مُعيَّنين لأن لديهم “موهبة طبيعيَّة” استثنائية أو شيئاً كذلك. فمثلاً، كانت المدة التي صرفها أصحاب الأداء الـ”متوسط” في التدريب من حياتهم حوالي 6 آلاف ساعة، أما من كان أداؤهم “ضعيفاً” فقد تدرَّبوا لأقل من ألفي ساعة، وهكذا. ذلك يعني، حسبما زعمت الدراسة، أنَّه لا وجود لموهبة فطرية تحكم قدرات الناس في العزف، بل إن نجاح العازفين في مهنتهم يرجع – بالغالبية العُظمى منه – إلى مقدار الوقت الذي استثمروه بتنمية مهاراتهم ومُمارسة ألحانهم.

أظهرت دراسة أندريس إريكسون أنَّ الناس قد يكونون قادرين على تجاوز نقصهم في مهارات مُعيَّنة، وتطوير إدراكٍ وقدرات جديدة تماماً فيها، بمُجرَّد ممارستها على مدى فترات زمنية طويلة. فحتى لو كانت لدى أحد لاعبي الشطرنج ذاكرة ضعيفة، أو لو كانت بديهة أحد العازفين بطيئة بحيث لا تساعده على العزف بالسرعة المناسبة، فسيكونون قادرين على تجاوز هذه الأنواع من النقص بالتدريب الطويل. ومع أنَّ إريكسون تحدث عن وُجود عوامل أخرى مُهمَّة أثرت على احتراف العازفين لعملهم، مثل حُصولهم على الدعم النفسي من الأشخاص المُقرَّبين منهم، واستمرار حافزهم الذاتيّ الذي يدفعهم للتدريب، وعدم تعرُّضهم لإصابات أو عوائق مشابهة، إلا أنَّه أصرَّ على أن تكون مدة التدريب هي العامل الحاسم والنهائي في تحديد درجة مهارتهم، وقدَّم نتائج تُدلِّل – بدرجة أو بأخرى – على ذلك الادعاء.

حازت دراسة أندريس إريكسون شعبيَّة كبيرة في المُجتمع العلمي وبين عامة الناس على حدِّ سواء، فقد حظيت بأكثر من 4,200 استشهاد في أوراقٍ علميَّة منشورة، وذاعت في صيتها على الإنترنت وفي الكُتب، خصوصاً بعد أن ذكرها مالكوم مراراً غلادول في كتاب Outliers. يُمكن القول أن عدداً جيداً من الباحثين والكتاب في مجال علم النفس، قد اعتبروا قاعدة العشرة آلاف ساعة أو السنوات العشر، أشبه بحقيقة علميَّة لفترةٍ جيدة بعد نشر دراسة إريكسون.

وجهة نظر العلم الحديث:

لاعب الشطرنج بيتر لاليك في سنة 2012.
بدلاً من التركيز على عازفي الموسيقى، قارنت دراسة ديفيد هامبرك (المنشورة سنة 2014) بين عوامل نجاح الناس في مجالاتٍ متنوِّعة، من أبرزها لعبة الشطرنج.

عشرة آلاف ساعة هي مُدَّة كبيرة جداً من الوقت، فهي تعني أنَّك لو قضيت ثلاث ساعاتٍ يومياً بالتدرب على مهارة مُعيَّنة، ستحتاج عشر سنواتٍ كاملة لكي تتقنها. قد يبدو من المنطقي أن أيَّ شخصٍ يتدرَّب على مهارة ما لمثل هذه المدة، لا بُدَّ وأن يحترفها في نهاية المَطاف، لكن وعلى نحوٍ مفاجئ، فإن البحوث التي تبعت دراسة أندريس إريكسون منذ سنة 1993 لا ترى ذلك. فمع أنَّ فكرة العشرة آلاف ساعة التي طرحها أندريس ظلَّت قائمة لفترة من الزمن، وحظيت بشعبيَّة عالية بين باحثي علم النفس لسنواتٍ عديدة، إلا أنَّها لم تعُد رائجة جداً في هذه الأيام. في الواقع، توحي الكثير من الدراسات الحديثة بأنَّ العمل الشاق، رُغم أهميَّته الكبيرة، قد لا يكون سوى عامل واحد مؤثِّر في نجاح الناس، لكنه بعيدٌ عن أن يكون بمرتبة عامل حاسم.

مع أنَّ الممارسة الطويلة تجعل الأداء يتحسَّن بالتأكيد، لكنها، على الأقل في نوع مُعيَّن من المجالات، قد لا تكون بديلاً كافياً عن الموهبة الفطرية. جاءت الضربة الكبيرة لدراسة أندريس إريكسون، والتي غيَّرت وجهة نظر المجتمع العلمي حول موضوع الموهبة بدرجة كبيرة، حديثاً جداً. حيث نُشرت في سنة 2014 دراسة تعاونيَّة بين باحثين في علم النفس من جامعات أمريكية عدَّة، من بينها جامعتا ميشيغان وبرونيل، تحت إشراف الأستاذ الجامعيّ ديفيد هامبرك. اعتمدت هذه الدراسة على مبدأ شبيه بدراسة إريكسون في التسعينات، فقد قارنت الأوقات التي صرفها عددٌ من لاعبي الشطرنج وعازفي الموسيقى والرياضيِّين والمدرسين بمُمارسة مهنهم مع مستوى أدائهم فيها. لكن في هذه المرَّة، لم يُحاول أعضاء الدراسة استجواب الأشخاص الخاضعين لها بأنفسهم، بل قاموا بجمع عددٍ كبيرٍ من الدراسات السابقة الموثَّقة، يبلغُ عددها 88 ورقة بحثية صادرة عن جامعاتٍ مختلفة، وقارنوا نتائجها بعناية لاستخلاص ما يُمكن من أدلِّة منها. بحسب النتائج التي توصَّل لها الباحثون، قالوا أنَّ الدراسات السابقة كانت قادرة على ربط عدد ساعات التدريب مع مستوى الأداء عند حوالي 12% من الأشخاص الخاضعين لها فحسب، أما الـ88% الآخرون فلم يكن من المُمكن تفسير مهارتهم بهذه الطريقة، فقد كان أداؤهم مُختلفاً اختلافاً كبيراً عن النتائج المتوقَّعة حسَبَ الأوقات التي قضوها في التدريب.

بصورةٍ عامة، تبيَّن أن تأثير التدريب طويل الأمد على المهارات التكرارية وثابتة الوتيرة (مثل جري المسافات الطويلة) أعلى بكثيرٍ منه على المهارات غير المُتوقَّعة (كالتعامل مع كارثة طيران).  الأدهى من ذلك هو أنَّ تأثير ساعات التدريب على الأداء كان أعلى بنسبة كبيرة في الدراسات المعتمدة على التقدير، حيث يُقدِّر المشاركون المُدَّة التي كانوا يقضونها بالتدريب كل يوم، منه في الدراسات المعتمدة على السجلات اليوميَّة، والتي يُدوِّن فيها المشاركون فترات تدريبهم كلَّ يوم، وبالتالي تكون أعلى بمقدارٍ معتبر من الدقة. في الحقيقة، عندما نأخذ الدراسات التي احتفظ فيها المُشاركون بيوميَّات على حدة، لن تكون نظرية العشرة آلاف ساعةٍ قادرة على تبرير أداء أكثر من 5% من الأشخاص المُتضمِّنين في هذه الدراسات. ليس ذلك فحسب، فقد أظهرت دراسة ديفيد هامبرك أيضاً وُجود اختلاف لا يُستهان به في قدرة الفترة التي قضاها شخصٌ بالتدريب على تفسير أدائه الجيِّد عند مقارنة مجالاتٍ مختلفة ببعضها بعضاً، ففي حين أنَّ قدرة اللعب لدى 26% من لاعبي الشطرنج كانت مرتبطةً بالجُهد الذي بذلوه في مُمارسة اللعبة، فإنَّ هذا الارتباط ليس موجوداً إلا عند 21% من عازفي الموسيقى، و18% من الرياضيين، و4% من المُدرِّسين المتخصِّصين.

المهارة مقابل الموهبة، مقارنة بين الموسيقى والألعاب ومجالاتٍ أخرى.
تُبيِّن هذه الرسوم البيانية دور التدريب (باللون الرمادي الفاتح) في اكتساب المهارة بمجالاتٍ مُختلفة، حسب دراسة ديفيد هامبرك المنشورة سنة 2014. مع أنَّ التدريب أثبت وُجود تأثير لا يُستهان به بالنسبة للاعبين الرياضيِّين، إلا أنَّ تأثيره يبدو شبه منعدمٍ على مجالاتٍ أخرى.

بحسب ما توصَّل إليه القائمون على هذه الدراسة، فإنَّ التدريب المُكثَّف يمكن أن يكون ضرورياً لتحقيق النجاح في حالات مُعيَّنة، لكن، لو لم تكن لدى الشخص المؤهلات الكافية ليكون ناجحاً في مجاله، فإنَّ صرفَ عدد كبير من الساعات بالمُمارسة الشديدة قد لا يساعده كثيراً. من جهةٍ أخرى، تبيَّن أن بعض الأشخاص الاستثنائيين قادرون على أن يحقِّقوا أداءً ممتازاً بعدد محدود جداً من ساعات التدريب. لكن، بالرُغم هذه النتائج، عليك أن تدرك أن هذه الدراسة تمكَّنت من رَبط 12% من أسباب نجاح الناس بالتدريب، لكنها لم تزعم أن النسبة الباقية عائدة إلى الموهبة المحضة أو حمض الـDNA وحده. ليسَ للموهبة تعريف دقيق متفقٌ عليه في المُجتمع العلمي حالياً، إلا أنَّ مُعظم الدراسات تميلُ الآن إلى وُجود عوامل  كثيرة مُختلفة يُمكنها أن تؤثر على أداء الناس في مجالات ومهاراتٍ مُعيَّنة، والتي لا يُمكن بحالٍ نسبُها جميعاً إلى الموهبة فقط. فمثلاً، للعُمر الذي يبدأ عنده الشخص تعلم مهارة مُعيَّنة أهميَّة كبيرة بسُرعة وجودة إتقانه لها، فثمَّة اختلافٌ لا يستهان به بين من يبدؤون تعلم عزف الموسيقى قبل الدخول إلى المدرسة، ومن لا يمارسونها حتى العشرينات. التشجيع من العائلة والأصدقاء أيضاً عاملٌ جوهري، فمن دونه لا يُمكن إلا لأشخاص قليلين ملاحقة شغفهم. عدا عن ذلك، فإنَّ الوُصوليَّة إلى مصادر التعلم، والحصول على الفرصة للتدريب، ومستوى الذكاء، وقوة الشَّغف الذاتي، والحصول على الإلهام، وفي النهاية الحظّ البحت، كلُّها عوامل تؤثر على تحقيق النجاح في أيِّ مجالٍ من المجالات.

يظهر الرسم البياني أدناه العلاقة بين الموهبة والعمل الشاق في الأداء وفق دراسة ديفيد هامبرك. حسبما يُبيِّن الخط الأزرق الصاعد، يُمكن لبعض الأشخاص ودون أي تدريب مُسبَق أن يظهروا أداءً ممتازاً في بعض المجالات، اعتماداً على موهبتهم الطبيعية وحدها. من جهة أخرى، يدلُّ الرسم على أن من يبذل جهداً كبيراً لاكتساب مهارة من المهارات، يُمكنه الوصول إلى مستوى أداء ممتازٍ فيها بمُجرَّد التدريب المستمر. ذلك يُمكن أن يعني أن العمل الشاق، حتى لو لم يكن كافياً لتحقيق نجاح باهر في مجال ما أو جعلك واحداً من أفضل الأشخاص فيه، إلا أنَّه قادر على رفع مستوى أدائك بدرجة كبيرة جداً، ومن الواضح – على الأقل – من الرسم البياني أنَّه عندما يخضع الجميع للتدريب الطويل والمُكثَّف، فإنَّ الفارق بين أصحاب الموهبة الطبيعية ومن يفتقرون إليها، يتقلَّص كثيراً. فمع أنَّ الشخص الذي يفتقر للموهبة لكنه يتدرب لسنوات على العزف على الناي مثلاً، قد لا يستطيع – طوال حياته – الانضمام إلى فرقة أوركسترا عالمية، إلا أنَّه قد يُصبح عازفاً جيداً تماماً، وقد يتمكَّن من عرض موهبته في مسارح صغيرة كثيرة وأن يكتسب شهرة محلية جيِّدة.

يُظهر هذا الرسم البياني، حسب دراسة ديفيد هامبرك المنشورة في سنة 2014، قدرة الناس على أداء مهام مُعقَّدة دون تدريب مكثف. المحور الرأسي يُعبِّر عن جودة الأداء، فكُلَّما ارتفع الخط أظهر ذلك أداء أفضل للمهارة، أما المحور الأفقي فهو يُعبِّر عن المهارة الطبيعية أو “الذكاء” في هذه الحالة، فكُلَّما اتجه الخط إلى اليمين عبر عن مستوى ذكاء أعلى. يعود الخط الأحمر إلى أشخاصٍ قضوا ساعات طويلة بالتدرب على هذه المهارة، أما الخط الأزرق فيعود لأشخاص لم يبذلوا أي جهد يذكر في ذلك.

نشر الصحفي والكاتب الأمريكي ديفيد إبستين في سنة 2013 كتاباً بعُنوان The Sports Gene انتقدَ فيه قاعدة العشرة آلاف ساعة، وكذلك أبحاث أندريس إريكسون في مجال الخبرة. يسير الكتاب على نفس نهج Outliers الصَّادر قبله بخمس سنوات، حيث يستعرض قصَص حالات نجاح مشهورة واحدة تلو الأخرى ليُدعِّم استنتاجاته، لكن في هذه المرة وعوضاً عن تناول قصص أشخاصٍ قضوا سنوات طويلة في التدريب، يتحدث إبستين عن رياضيِّين تمكنوا من تحقيق نتائج مُبهرة في بعض المنافسات دون أي تدريب مُسبَق يذكر. مع أنَّ إبستين يُقدِّم وجهة نظر مُتطرِّفة قليلاً اتجاه الموهبة في كتابه، إلا أنَّ طرحه – عند التغاضي عن تلك المبالغة – متوافق إجمالاً مع التوجُّه الحديث في الأبحاث العلميَّة نحو اكتساب الخبرة، والتي لم تعد ترى الممارسة المُكثَّفة العامل الأساسي الوحيد في تطوير المهارة.

ما هي النتيجة؟

حصَّة مدرسة ثانوية في ولاية جورجيا الأمريكية.
حتى لو تلقى الجميع تعليماً بنفس المستوى والأسلوب منذ سنين مُبكِّرة، فإنَّ أدائهم في أي مادة سيختلف اختلافاً شديداً.

في الوقت الحالي، لم يَعد ثمَّة قبولٌ كبير في المجتمع العلمي لفكرة قاعدة العشرة آلاف ساعة، فعوضاً عن اعتبارها “قاعدة” مُطلقة أو ذات أهمية جوهرية، أصبحت تعامَل وكأنها محض “مُعدَّل”. فمثلاً، إذا أحضرتَ مجموعة عشوائية من الناس، وطلبتَ منهم التدرب على مهارة مُعيَّنة، كالعزف على البيانو، يمكننا توقُّع أن المعدل الوسطيَّ – إحصائياً – للوقت الذي سيحتاجونه لاحتراف العزف سيكون نحو 10,000 ساعة من التدريب، إلا أنَّ هذا الرقم (ورغم كونه وسطياً) لن ينطبق إلا على عيِّنة محدودة من الناس، وقد لا يعني أيَّ شيءٍ بالنسبة للكثير منهم، حيث يُمكن أن يستطيعوا إتقان العزف في وقتٍ أقصر بكثير، أو قد لا يتمكنون من إتقانه أبداً، وقد اعترف بذلك أندريس إريكسون نفسه في بحث حديث له، قائلاً أنَّه: «ما من شيء مُميَّز بالحقيقة في رقم العشرة آلاف ساعة بالذات». فالحقيقة المؤسفة، كما وصفها عالم النفس ستيفن بانكر، هي: «فكرة أن جميع الناس يُولدون متساوين في قدراتهم، قد اندثرت منذ زمنٍ بعيد»، وحتى لو تدرَّب الجميع بنفس المقدار وبالجُهد ذاته، فسينتهون بقدراتٍ مختلفة جذرياً.

إذاً ما الذي يؤثر على اكتساب الناس للمهارة أيضاً؟ على أرض الواقع، لا أحد يعرف تماماً. ممَّا لا شك فيه أنَّ ما يُسمِّيه الناس “الموهبة” أو “الجينات” عاملٌ جوهريٌّ في النجاح والإبداع، لكن فهم العلم للموهبة لا زال محدوداً جداً. يُعرِّف بعض الباحثين الموهبة بأنَّها «مجموعة من الصفات الشخصيَّة التي تساعدنا على إتقان مهارة ما بطريقة أفضل من باقي الناس»، لكن عدد هذه الصفات كبير جداً، وطريقة تفاعلها مع بعضها مُعقَّدة بدرجة كبيرة، بحيث لا يُمكن بحثها وتقصيها على حدا في دراسة علميَّة. فما يُهم ليس الصفات الفرديَّة التي تصنع الموهبة، كالذاكرة القوية أو البديهة السَّريعة أو الاستيعاب الجيِّد، وإنَّما الناتج النهائي عن تفاعل كل هذه الصفات مع بعضها لدى شخصٍ مُعيَّن. ففي الكثير من الحالات على سبيل المثال، يُمكن لهذه الصفات الفرديَّة أن لا تتطوَّر عند الشخص الواحد بالتوازي مع بعضها، فقد يمتلك أحدهم قدرات خطابيَّة ممتازة، لكن طبيعته الخجولة أو غير الاجتماعية  ستمنعه من مشاركتها مع الآخرين، وبالتالي قد لا تبرز موهبته حتى مرحلةٍ متأخرة من حياته. في مثل هذه الحالة، قد يبدو أنَّ الموهبة لم تكن موجودة أصلاً لدى ذلك الشخص من قبل، لكنَّها في الواقع كانت تحتاج أن تنضج فقط، باكتمال إتقانه للصفات الفرديَّة التي يتطلَّبها تكوين الموهبة.

مكعب روبك

من جهةٍ أخرى، وحتى بعد الاعتراف بالدور الجوهريّ للموهبة في اكتساب المهارات، فذلك لا يعني أنَّ مصدر الموهبة هو – ببساطة – مُجرَّد الجينات التي نرثها عن آبائنا. في الحقيقة، اختلفت النظرة العلميَّة حول أثر الجينات على تطور قدراتنا بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت تميل إلى أنَّ الجينات ليست شيئاً حاسماً أو ثابتاً، وإنَّما هي عُرضة للتغير والتطور استجابة للظروف التي نمرُّ بها. يقول عالم الأحياء في جامعة كامبردج باترك بيتسون محاولاً وصف ذلك: «يبدأ الإنسان حياته مع استعداديَّة في جيناته للتطور في اتجاهاتٍ كثيرة مُختلفة، والذي يُقرِّر أي واحد من هذه الاتجاهات سيسلك فيما بعد، هو البيئة التي تُحيط به.. والطريقة التي تؤثر بها عليه». لم تأتي وجهة النظر هذه من مناقشات نظريَّة بحتة، بل بسبب مجموعة متنوِّعة من التجارب العلمية التي أجريت مُنذ خمسينيات القرن المنصرم. فقد أظهرت واحدة من هذه التجارب، وقد نشرت سنة 1958، أنَّ الفئران المنحدرة من  سلالات جينيَّة شديدة الذكاء، يُمكن أن تظهر مستوى عادياً تماماً منه (بالنسبة للفئران الأخرى) عندما توضع في بيئات مُعيَّنة. لا بُدَّ وأن الجينات تؤدي دوراً ذا أهمية كبيرة في اكتساب الخبرات والمهارات، لكنَّها هي أيضاً محض جزء من عمليَّة مُعقَّدة تجتمع فيها عوامل كثيرة، ويُمكن النظر إليها كمحض صفة بشريَّة أخرى لها القدرة على التغير مع مرور الزمن.

على أيِّ حال، ليس من الصَّحيح النظر إلى الموهبة والممارسة على أنَّهما مفهومان متعارضان، فهُما – على العكس تماماً – مُكمِّلان لبعضهما بعضاً، وليست ثمَّة قيمة تذكر لأحدهما دون الآخر. ومع أنَّ نسبة تأثير كل منهما على مهارات الناس قد تختلف، وقد تتغيَّر وجهة نظر العلم حولها باستمرارٍ على مرِّ السنوات القادمة، إلا أنَّ الواضح أن كلاهما يؤدي دوراً مهماً في العملية. إنَّ إتقان البشر لمهارة ما يتطلَّب اجتماع عوامل كثيرة جداً، فحتى عند توفر الموهبة العالية والتدريب الجيِّد، يُمكن للافتقار إلى الحافز والرَّغبة الحقيقيَّة بالتعلُّم أن يكون كفيلاً بتدمير مُعظم الآثار الإيجابية للعاملين السَّابقين، وفي مُعظم الحالات، قد يكون انعدام الدعم النفسي من المُجتمع والتشجيع من الأصدقاء سبباً كافياً لمنع أي موهبة من الازدهار.

البشر لا يولدون بقدراتٍ متساوية، لكنهم ليسوا محكومين بما يولدون عليه، فكل شخصٍ له إمكانات خاصَّة به، وفرصة لتطوير قدرات جديدة بعمله الشاق. مع أنَّ الجينات الموروثة والموهبة الفطرية قد يؤثران بدرجةٍ عالية على فرص الناس في الحياة، إلا أنَّهما ليسا قادرين على تقرير مصير أي شخص. وفي النهاية، مثلما أن الأشخاص الذين ينعمون بمواهب استثنائية نادرون جداً في عالمنا، فإنَّ من لديهم الاستعداد لإفناء ساعات وسنوات طويلة بالعمل الشاق وبناء المهارة من العدم هم أيضاً نادرون للغاية، ولهُم مكانهم المُميَّز في هذا العالم بدورهم. قد لا يولد جميع الناس والطريق السَّهل للنجاح متاح أمامهم، لكن لا أحد تقريباً يُولد هكذا، فكلُّ من حقَّقوا إنجازات كبيرة في تاريخ البشرية، لم يصلوا إليها إلا بجُهدٍ عظيم.

ختام مؤتمر ويكي عربية لسنة 2016


338px-wikiarabia_logo-svg
شعار ويكي عربيَّة!

انتهى مؤتمر ويكي عربية الثاني المُقام في مدينة عمَّان بالأردن يوم السبت الفائت، بعد ثلاثة أيام من النشاطات المُكثَّفة التي جمعت أكثر من 70 ويكيبيدياً من المنطقة العربية، فضلاً عن عددٍ من الدول الأجنبية. كانت المٌشاركة في ويكي عربية، كمراقبٍ ومُنظِّم، واحدة من أفضل التجارب التي حظيت بها في حياتي، فمع أنَّ المؤتمر قد لا يكون الأعلى نشاطاً أو الأكثر ازدحاماً بالفعاليات، إلا أنَّه – بنظري – يُؤدِّي دوراً مُهماً جداً في هذا الوقت بالنسبة لمنطقتنا، ويُمهِّد لولادة مُجتمعٍ ويكيبيدي نشط ومُنظَّم على امتداد الدول العربيَّة.

لم يكن ويكي عربية من أكبر مؤتمرات ويكيبيديا أو أفضلها تنظيماً بالضرورة، لكنه يؤدي دوراً جوهرياً بالنسبة للويكيبيديين العرب، فقد جاء هذا المؤتمر في أعقاب تأسيس مُنظَّمات مُمثلة لحركة ويكيميديا في تسع دول عربيَّة على مدى السنتين الفائتين، هي تونس والجزائر والمغرب ومصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن. هذه المنظمات مُهمِّة جداً في تنشيط الفعاليات المُتعلِّقة بويكيبيديا ومشاريعها الشقيقة في دول العالم، لكن ومنذ عامين فقط، لم يكُن لها وجود في أي دول عربية. عدا عن ذلك، تولَّت تنظيم هذا الحدث مجموعة الويكيبيديين في بلاد الشام المُنبثقة حديثاً، والتي لم يَحظَ مُعظم أعضائها بتجربة مثل هذه من قبل، وقد كان ويكي عربيَّة لهذا العام المؤتمر العربي الثاني في تاريخ المنطقة بعد ويكي عربية في تونس الذي أقيم العام الماضي، لذا فمن المُحتمل أن يُهيِّء لانعقاد مؤتمر سنوي خاص بويكيبيديا في العالم العربي من الآن فصاعداً.

wikiarabia_2016_day_1_285729
“حق المعرفة… حقّ مقدس”.. يا له من شعار!

بالنسبة لي، ومع أنَّي حضرت عدداً جيداً على الأرجح من تجمُّعات ويكيبيديا – ما بين مؤتمرات وورش عمل وهاكاثونات – على مر السنوات الماضية، إلا أنَّ هذه كانت أول مرة أشارك فيها بتنظيم حدث ويكيبيديّ. رغم أنَّني طالما اعتقدتُ أن حضور ملتقيات ويكيبيديا هو واحدةٌ من أفضل التجارب في العالم، إلا أنَّ ما اكتشفته خلال البضعة أيَّام الماضية هو أن تنظيمها، في الحقيقة، أفضل بكثير. فبدلاً من أن أكون مُجرَّد عضو مراقب، كنت قادراً هذه المرَّة على المُشاركة في صناعة المؤتمر، ونقل الأفكار التي كنتُ أريد أن أراها في الملتقيات السَّابقة التي حضرتُها إلى أرض الواقع. وعدا عن أي شيء، فإنَّ العمل في فريقٍ من الناس الذين يتبرَّعون بوقتهم وطاقتهم لنشر المعرفة الحرة للبشرية، كان تجربة رائعة جداً.

بداية العمل:

ظهرت فكرة ويكي عربية قبل عامٍ ونصف، عقب تأسيس مجموعة ويكيميديا تونس، التي جمعت مساهمي ويكيبيديا في دولة تونس ضمنَ مُنظَّمة واحدة، وكان من أول المشاريع التي أطلقتها المجموعة تنظيم مؤتمر ويكي عربية الأول في مدينة المنتسير. إن عقد مؤتمراتٍ خاصة بويكيبيديا مُوجَّهة نحو دول أو مناطق جغرافية مُعيَّنة أمر رائج، فثمَّة مؤتمر ويكيبيديّ سنوي يُقام في الهند، وأرمينيا، وكازاخستان، والاتحاد الأوروبي، وعدد كبير من الدول الغربية، إلا أنَّه لم يُنظَّم شيء مثل هذا من قبل في العالم العربي. أقيم المؤتمر من 3 إلى 5 أبريل سنة 2015 بحضور حوالي 50 شخص، من ضمنهم مديرة مؤسَّسة ويكيميديا التنفيذية ليلا تركتوف، وكان أداؤه ناجحاً.

كان من المُفترض أن أشارك في ويكي عربية الأول، لولا أنَّني لم أنجح بالحصول على تأشيرة سفرٍ بالوقت المناسب، مع العلم بأنَّ الخارجية التونسية أصدرت قراراً بإلغاء التأشيرة لجميع المواطنين الأردنيين بعد انتهاء المؤتمر بأقلِّ من شهر!

1024px-wikiarabia_2015_group_photograph
صورة ختام ويكي عربية لسنة 2015 في تونس.

في شهر أيَّار من سنة 2015 أعلنا عن تأسيس مجموعة ويكيميديا في بلاد الشام (وهو ما دوَّنتُ عنه هنا سابقاً)، التي جمعت مساهمي ويكيبيديا في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن تحت مظلَّة واحدة، كبادرة لتقليص شتات الويكيبيديين العرب. عملت مجموعتنا على تنظيم نشاطات صغيرة في البداية، لكن عندما تقدَّم العام وحل شهر سبتمبر دون الإعلان عن دولة جديدة تودُّ استضافة ويكي عربية، عقدنا اجتماعاً وقرَّرنا أن نعمل على إقامته لسنة 2016 في مدينة عمَّان، بالنظر إلى تمركز أكبر عددٍ من أعضاء المجموعة فيها. الحقيقة هي أنَّ مُعظم أعضاء فريق التنظيم لم يكن لديهم تخيُّل – على الأرجح – عن تجربة العمل على استضافة حدث بمثل هذا الحجم، فخبرتنا في مجال التنظيم والإدارة كانت شبه مُنعدمة، إلا أنَّ الحماس والرغبة بالعمل على مشروعٍ باسم مجموعتنا الجديدة نجحا، لحُسن الحظ، بصرفنا عن التفكير بذلك.

wikipedians_gathering2c_amman2c_29-3-2014
كان هذا اللقاء في دارة الفنون بعمَّان أحد الاجتماعات الأولى التي مهَّدت لتأسيس ويكيميديا الشام، حيث يظهر في الصُّورة مُعظم أعضاء فريق تنظيم ويكي عربيَّة.

كانت لدينا مُشكلة بسيطة، وهي أنَّ تمويل المؤتمر ليس من عندنا، بل هو آتٍ بأكمله من مؤسَّسة ويكيميديا التي يقع مقرُّها في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكيَّة، وبالتالي، كان من المُتوقَّع منا الالتزام بشروطها. يؤسفني القول بأنَّنا تجاوزنا جميع الـ”Deadlines” المُحدَّدة لنا بفتراتٍ تصل إلى بضعة أسابيع، وتأخرنا تأخراً كبيراً في تحديد الميزانية، وواجهنا عدداً غير قليلٍ من العقبات، لكن المؤسسة كانت جيِّدة كفاية لتتجاوز عن كل هذه الهفوات وتستمرَّ بالتعاون معنا. في نهاية المطاف وبطريقة ما، دعني أعترف بأنَّ النتيجة التي خرج عليها هذا المؤتمر قد فاقت، بطريقة إيجابيَّة تماماً، كافَّة توقُّعاتي كعضوٍ في فريق التنظيم.

افتتاح ويكي عربيَّة:

كنا نعقد اجتماعات للجنة التنظيم مرة في الشهر تقريباً خلال الشهور الأولى، ثم تزايد العدد تدريجياً مع دنوّ موعد المؤتمر. من بين توقُّعاتي الخاطئة عن تجربة التنظيم، والذي لستُ متأكداً مما لو كان مصدرها مُجرَّد نقص خبرتنا في العمل وبعض من الحظ الجيِّد، هي أني تخيلت أن تزداد كمية العمل العالق والمُشكلات المفاجئة  خلال الأسبوع أو الأسبوعين الأخيرين قبل انعقاد المؤتمر بدرجة كبيرة. في الواقع، ومع أنَّ كماً من الأعمال الإضافية قد ظهر بطبيعة الحال، إلا أنَّنا لم نحتج للدخول في حالة استنفار أو شيء مثل ذلك. كانت المُشكلات المفاجئة الحقيقية التي واجهتنا – بصورة أساسية – هي أن عدداً من الحُضور (الذي أمنَّا لهم بالفعل مصاريف تذاكر السفر والإقامة) فشلوا بالحصول على تأشيرة للأردن، أو واجهتهُم ظروفٌ مفاجئة منعتهم من المجيء. كانت هذه الأنباء غير المتوقعة مُزعجة جداً، لكننا كنا مُضطرِّين للاستسلام لعدم قدرتنا على فعل شيء حيالها.

wikiarabia_2016_day_1_28529
افتتاح باب التسجيل وتوزيع السترات والحقائب، قبل بدء فعاليات المؤتمر بنصف ساعة.

كان من المُحتمل أن تعلق بعض القضايا الأخرى حتى موعد المؤتمر أو بعده، مثل بعض المطبوعات التي تأخَّرنا في إرسالها إلى المطبعة، لكن ولحُسن الحظ، أمنت كل المسائل الضرورية بحلول ليلة الافتتاح. قد لا يكون من الضروري ذكر أنَّنا اضطررنا للسهر للساعة الثانية صباحاً في تلك الليلة، والذهاب للافتتاح دون نوم تقريباً، لأننا – على الأقل – نجحنا بالتأكد من جاهزية كل شيء قبل اليوم الكبير.

افتُتح باب التسجيل للمؤتمر في الساعة التاسعة صباحاً، يوم الخميس الماضي 24 آذار. مع أنَّني، حسبما يفترض، أمين سر المؤتمر، إلا أنَّ نقص الكادر جعلني أقف على طاولة التسجيل في أثناء الافتتاح، حيث نسجِّل أسماء الحضور ونُسلِّمهم بطاقاتهم وحقائبهم ومعاطف ويكيميديا الشام المطبوعة لهم، والحقيقة أن المهمَّة كانت ممتعةً نوعاً ما. كنتُ أعرف مُسبقاً معظم حضور المؤتمر، لأني قابلتهم في ملتقيات ويكيبيديَّة سابقة أو لأننا على معرفة جيِّدة عبر الإنترنت، لكنني حصلت أيضاً على الفًرصة لأتعرَّف على عدد من الأشخاص الجُدد المثيرين للاهتمام، مثل طلبة برنامج ويكيبيديا التعليمي الجامعيِّين في مصر وفلسطين، وأعضاء من مبادرة بالعربي، وعدد من الوُجوه الويكيبيدية الجديدة عليّ.

wikiarabia_2016_286329
المحاضرات تبدأ.

كما تجري العادة، ولأننا لسنا مُبدعين على نحو خاصٍّ فيما يتعلَّق بمراسيم افتتاح المؤتمرات، بدأنا الحدث الكبير بعددٍ من الكلمات التقديمية النموذجية. ألقت رئيسة فريق التنظيم، مرفت سلمان، كلمة سريعة تعريفيَّة عن ويكي عربيَّة، أعقبها عضو مجموعة ويكيميديا في بلاد الشام نضال جرَّار (وهو أيضاً أحد المُنظِّمين) الذي ألقى حديثاً قصيراً عن فكرة تأسيس مجموعةٍ تُوحِّد دول الشام الأربعة، وآمالنا بتوسيع دائرة التعاون هذه لتشمل كل دول العالم العربي تحت مظلَّة واحدة، وأخيراً جاء خطاب من المدير التنفيذي للشؤون الثقافية في أمانة عمَّان، والذي لم أركِّز كثيراً في الواقع بأيٍّ ما كان يقوله.

كانت الفقرة التالية جيِّدة بالنسبة لي. جاء الدور على مُمثلِّي مؤسَّسة ويكيميديا، وهي الهيكل التنظيمي والقانوني وراء ويكيبيديا، ليُشاركوا في الافتتاح. بدأت الفقرة بعرض فيديو لمديرة المؤسَّسة التنفيذية كاثرين ماهر، وهي مديرة مؤقتة للمؤسسة انتخبت على عجلٍ بعد تقديم المديرة السابقة (ليلا تركتوف) استقالتها في الشهر الماضي، بسبب تدهور سُمعتها في مجتمع ويكيبيديا وتزايد الاعتراضات على سياساتها الإدارية. كنا قد أرسلنا دعوة لكاثرين لحُضور ويكي عربيَّة، لكنها اعتذرت عن ذلك لازدحام جدولها الحاليّ، واستعاضت عن القدوم بتسجيل فيديو قصير مدته دقيقتان ليُعرَض في الافتتاح، تحدَِّثت فيه عن تجربتها مع مؤتمر ويكي عربية السَّابق في تونس، وامتدحت مراراً النشاط الويكيبيديّ الكبير بالمنطقة العربية. لعلَّ مُعظم ما ورد في الفيديو هو مجاملات فارغة، لكنه كان إضافة لطيفة لحفل الافتتاح.

wikiarabia_2016_day_1_282529
طاي فلانغان، أحد ممثلي مؤسَّسة ويكيميديا، في كلمة الافتتاح.

بعد انتهاء الفيديو، صعد إلى المنصَّة ممثلو مؤسَّسة ويكيميديا الحاضرون، ليشاركوا أيضاً بكلماتٍ قصيرة ومختصرة تُعبِّر عن آمالهم من المؤتمر. وقف طاي فلانغان، مدير برنامج ويكيبيديا التعليميّ في الشرق الأوسط، وقال أنَّ لديه بعض الهدايا للمُنظِّمين. كان بحوزته عدد من المعاطف المطبوعة لويكيبيديا، والتي رغبتُ بالحصول على واحد منها منذ زمن طويل. ثم وبعد تسليمه للمعاطف، استئنف حديثه قائلاً أن لديه المزيد من الهدايا لمرفت وعبَّاد، لأنهما قاما “بمُعظم العمل الصَّعب في تنظيم هذا الحدث”، ومع أني – بأمانة تامَّة! – لا أعتقد أن تلك العبارة كانت دقيقة فيما يتعلَّق بي، إلا أنَّني حصلت على قميص رائعٍ عليه صورة محطَّة الفضاء الدولية، والتي اختارها طاي لي بسبب هوسي الشديد بالفضاء.

ويكيبيديا صفر:

wikipedia_zero_countries_as_of_january_1_2016
لدى مشروع ويكيبيديا صفر اتفاقيات فاعلة حالياً مع شركات اتصالات في جميع هذه الدول.

شغل موضوع يكيبيديا صفر واحدةً من أولى جلسات المؤتمر. ويكيبيديا صفر أو Wikipedia Zero هو مشروع أطلقته مؤسَّسة ويكيميديا في سنة 2012، يهدف إلى محاولة إيصال ويكيبيديا إلى أكبر عددٍ من سكان الدول النامية، وذلك بعقد اتفاقيات مع شركات الاتصالات المحليَّة للسَّماح لزبائنها بتصفُّح ويكيبيديا مجاناً. يُغطي هذا المشروع الطَّموح حالياً 82 شركة اتصال في 64 دولة من دول العالم، ويُقدَّر عدد الناس المستفيدين منه بحوالي 600 مليون شخص. يستهدف هذا المشروع مستخدمي الهواتف الذكية بدرجة خاصة، فقد جاء بعد نجاح الفريق التقني في مؤسسة ويكيميديا بتطوير واجهة الموسوعة لتدعم التصفُّح والتعديل بأجهزة الجوال، وهكذا أصبح بإمكان سُكان الدول الفقيرة الذين لا يملكون أجهزة حاسوب أن يستخدموا ويكيبيديا ويُساهموا فيها بهواتفهم وحدها.

كان لدينا شخصٌ مناسب جداً للحديث عن هذا الموضوع، فالمسؤول الحالي عن شراكات ويكيبيديا صفر في منطقة الشرق الأوسط هو جاك رباح من الأردن، والذي تحدث في مداخلته عن محاولات توسيع هذه الشراكات في المنطقة العربيَّة، والنجاحات التي أمكن تحقيقها حتى الآن. يُغطي ويكيبيديا صفر في الوقت الحاضر ثلاث دول عربيَّة، هي الأردن (بالتعاقد مع شركة أمنية) والجزائر (شركة جازي) والمغرب (شركتا إنوي والاتصالات المغربية)، فلو كانت شريحة اتصالك مُصدرة من إحدى هذه الشركات، يمكنك تصفُّح مقالات ويكيبيديا الآن دون مقابل. كانت لدى مؤسسة ويكيميديا شراكات شبيهة مع شركة موبايلي في السعودية، وأورنج في الأردن، وشركة أو اثنتين في مصر، لكن مدة الاتفاقيات المُحدَّدة لها قد انقضت، ولم تعرض شركات الاتصالات تجديدها.

بعد انتهاء جاك، جاء الدور على مصعب بنات من الأردن ليقصَّ تجربته الناجحة في استعمال ميزة ويكيبيديا صفر. مصعب هو إداري في ويكيبيديا العربية وله أكثر من 50 ألف تعديل على الموسوعة، لكنه لا يمتلك جهاز حاسوب، بل هو يقوم بكلُّ مساهماته عبر هاتفه الخلوي وبالاستفادة من خاصية التصفح المجاني. كان من المُلهم أن نحصل بعد عرض جاك التعريفي، على مثالٍ ناجحٍ من المنطقة العربية على كم من المُمكن أن تكون خاصية التصفح المجاني لويكيبيديا مفيدة.

نقاش ممثلي مجموعات ويكيميديا:

wikiarabia_2016_day_1_286829
استعداد ممثلي مجموعات ويكيميديا العربيَّة، قبل بدء فقرة النقاش المفتوح بقليل.

عليَّ القول أن هذه الفقرة كانت واحدة من أكثر جلسات المؤتمر التي اهتممتُ بها وعلَّقت آمالاً عليها. اقتُرِحَت هذه الفكرة للمرَّة الأولى قبل موعد المؤتمر بخمسة أو ستة شهور، وأعتقد أن مُعظم أعضاء فريق التنظيم كانوا مُتحمِّسين لها بدرجة عالية. مجموعات ويكيميديا هي ظاهرة جديدة في العالم العربي، آخذة بالانتشار والتطور بسُرعة كبيرة، فخلال عامين فقط أصبحت لدينا مجموعات تمثيليَّة في تسع بلدان عربيَّة مختلفة. هذه المُنظَّمات هي الحاضنة والمُحرِّك الأساسي لكل الفعاليات والأنشطة المُتعلِّقة بويكيبيديا في أنحاء العالم، ولذلك فإنَّ التواصل والتعاون بينها، خصوصاً عندما تكون متقاربة جغرافياً إلى هذا الحدّ، أمر جوهريّ، ويُمكن لجلسة تجمع ممثلين من كل واحدة من المجموعات العربية، أن تؤتي نقاشات مثمرة جداً.

للأسف، وبما أنِّي أفضل أن أكون شفافاً عندما أكتب على مدونتي، عليَّ القول أن النتيجة كانت بأقل ما يُمكن قوله، مُحبطة جداً. بذل فرح مستكلم، وهو عضو في فريق التنظيم من فلسطين، جُهداً جيِّداً بمحاولة تنظيم جلسة النقاش وتحديد محاور لها، لكن لم يكن معه الكثير من الوقت، لأنَّنا أعطيناه مهمَّة الإشراف على الجلسة قبل انعقادها بيومٍ واحد فقط.

wikiarabia_2016_day_1_288929
الحضور يناقشون المواضيع المطروحة.

بدأت الجلسة النقاشية بتعريفٍ عام عن كل واحدة من مجموعات ويكيميديا في المنطقة العربيَّة. تحدث كل ممثل عن تجربة دولته في تكوين مجموعتها، والصعوبات الأساسية التي واجهتهم، والأداء الذي يقومون به في الوقت الحالي. لكن وبعد الانتهاء من ذلك، بدا أنَّ من الصَّعب توجيه الجلسة في اتجاه مُحدَّد مُثمِر. كان ثمَّة الكثير من التشتت، ولم يتفاعل الحُضور بالدرجة الكافية – بنظري – مع المواضيع المَطروحة، فقد كانت نوعيَّة القضايا التي يناقشها ممثلو المجموعات تتطلَّب تفاعلاً عالياً من الجُمهور برأيي، لأنها تمسُّ مُجتمع ويكيبيديا العربية بأكمله وتهم جميع المتواجدين. لا أدري لو كان يُمكن وصف هذه الجلسة بأنها ناجحة بأي طريقة، لكني أرجو – على الأقل – أن تكون بادرة لعقد جلسات مشابهة في المؤتمرات اللاحقة، لتساعد على مناقشة القضايا الجوهريَّة بالنسبة لأنشطة ويكيبيديا في العالم العربي.

تنظيم مجموعة ويكيميديا إيطاليا:

wikiarabia_2016_day_1_288129
جينيفرا تتحدث عن ويكيميديا إيطاليا.

كما سبق وأن قلت، مجموعات ويكيميديا موجودة في العديد من دول العالم، بما في ذلك مُعظم الدول المُتقدِّمة. في المحاضرة الأخيرة قبل ساعة الغداء من اليوم الأول للمؤتمر، تحدثت جينيفرا سانفيتيل عن الطريقة المناسبة لإدارة مؤسسات ويكيميديا، مستشهدة بتجربتها كعضوة في مجلس إدارة مُنظَّمة ويكيميديا إيطاليا.

كانت المحاضرة عامَّة إلى حد ما، فعوضاً عن الخوض في التفاصيل والمُشكلات المُحدَّدة التي يُمكن أن أتوقع (كعضو في مجموعة لويكيميديا) أن تواجهني، تناولت جينيفرا عمليَّة إدارة مُنظَّمات ويكيميديا بطريقة عامة جداً. كان جلُّ المداخلة عبارة عن ملاحظات ونصائح عن طريقة إدارة فعاليات ويكيبيديا، مثل “ضرورة التخطيط المُسبَق” و”الاستعدادية للتعامل مع المشاكل المفاجئة”، لكن لم تكن هذه الأفكار مُعزَّزة بأمثلة تُوضِّحها وترسخها لدى المتلقي، ول مترافقها قصصٌ عن تجاربها الشخصية في هذا المجال. بالنسبة لي، كان الجزء الأكثر فائدة من المحاضرة هو المقدمة التي تحدَّثت فيها جينيفرا عن ويكيميديا إيطاليا ومشاريعها، لكنني لم أشعر بأن باقي النصائح كانت فعَّالة جداً بطريقة عرضها هذه.

نظام مراسلات ويكيبيديا:

wikiarabia_2016_287729
زياد السفياني يشرح آليات عمل نظام المراسلات (OTRS)، الذي يستعمل للتواصل الرسمي مع مؤسسة ويكيميديا.

بعد طعام الغداء، انقسمت جلسات المؤتمر إلى قسمين مُنفصلين: فقد كانت لدينا قاعتان مُستقلتان تقام فيهما محاضرات على التوازي، حيث على المُشاركين اختيار أي قاعة يُريدون الحضور فيها. استضافت القاعة الرئيسية مداخلاتٍ مُتنوِّعة، منها ما كان عن إنشاء نسخٍ جديدة من ويكيبيديا تُغطي اللهجات العربية (على غرار ويكيبيديا المصريَّة)، وعن قضية ترجمة المُصطلحات العلمية في مقالات الموسوعة، وعن مشاريع ويكيميديا الشقيقة. للأسف، لا يُمكن للشخص التواجد بأكثر من مكانين، وقد اخترتُ شخصياً البقاء في القاعة الصَّغيرة طوال ما تبقى من اليوم، لذلك فوتُّ على نفسي كل هذه المواضيع.

افتتح جلسات القاعة الصَّغيرة زياد السفياني من السعودية، الذي قدَّم شرحاً جميلاً عن نظام الـ”OTRS” للمراسلات. هذا النظام هو خدمة تُقدِّمها ويكيبيديا تسمح للناس بإرسال استفساراتٍ أو طلباتٍ خاصَّة مُتعلِّقة بالموسوعة عبر البريد الإلكتروني، وهي تُعَامل بخصوصيَّة عالية، ممَّا يضمن لأصحاب الأسئلة (لو كانوا أشخاصاً مشهورين يطلبون تعديلات على مقالاتهم مثلاً) أن يحموا هويَّتهم. ميزة هذا النظام أنَّ من يردون على الرسائل الواردة فيه يكونون فئة مُنتخبة من مجتمع ويكيبيديا، على خبرة واطلاع عاليين بطرق العمل فيها، وإلمامٍ كبير بسياسات وقوانين الموسوعة. يعود السبب في ذلك إلى أنَّ كل من يردُّ على الرسائل الواردة على هذا البريد، يُعتبر (قانوناً) مٌمثلاً عن مُؤسَّسة ويكيميديا، وبالتالي فمن الضروريّ الحرص على أن يكون شخصاً واعياً ومدركاً لمسؤوليَّته.

عادة لا تتم الموافقة على منح شخص وُصولاً إلى الـ”OTRS” إلا لو كان إدارياً، أو مُحرِّراً قديماً ومُتمرساً. كنتُ عضواً في هذا النظام لمدة عامٍ تقريباً، لكن عضويتي ألغيت بسبب انخفاض نشاطي، وقد كانت تجربة فريدة نوعاً ما، حيث اكتشفتُ وجود عدد كبير من الأشخاص المشهورين الذين يرسلون شكاوى واعتراضاتٍ عن مقالاتهم طوال الوقت.

كانت المحاضرتان التاليتان شيَّقتين في مواضيعهما، لكني لم أستطع حضورهما بتركيزٍ لأنني كنت بحاجة للقيام ببعض الأعمال التنظيميَّة. تحدث شبيب الشهابي من السعودية عن الأوتويكي براوزر، وهو برنامجٌ ممتاز يُساعد على إجراء عمليَّات الصيانة السريعة والتكرارية في ويكيبيديا، وأما نزار قرقني من تونس فقد أعطى كلمة عن البرمجيَّات الحرة.

حقوق الإنترنت بالنسبة إلى ويكيبيديا:

كانت إحدى المُداخلات الأخيرة لليوم الأول تحمل عنوان “حقوق الإنترنت وويكيبيديا”. صاحب المُداخلة هو محمد تراكية، وهو عضو في الجمعيَّة الأردنية للمصدر المفتوح (JOSA) والتي كُنَّا قد طلبنا منها تقديم عدد من المُداخلات في المؤتمر، بالنظر إلى أنَّ عملها مقاربٌ جداً في غاياته ومبادئه لما نفعله في ويكيبيديا. المحاضر نفسه، تراكية، هو ناشط مهتم على نحوٍ عالٍ بموضوع حرية الإنترنت وسُبل وصونها وحمايتها.

10649948_10154157947284905_3031108706689673976_n
محمد تراكية في مداخلة حقوق الإنترنت.

كانت هذه الفقرة واحدة من أكثر المواضيع المطروحة في المؤتمر متعة بالنسبة لي. لم يكن ذلك لأنها أتت بأفكار جديدة أو إبداعية، وإنَّما لأنها قدَّمت منظوراً جديداً غير مألوف لنا للعمل الذي نقوم به في ويكيبيديا، فنحنُ – كمُجتمع ويكيبيديا – نرى بالعادة أن كل ما نقوم به هو عملٌ مفيدٌ وجوهريّ، يُساعد الناس على الحصول على المعرفة الحُرَّة، ويساهم بجعل الإنترنت مكاناً أفضل. لكن تراكية كانت لديه وجهة نظرٍ مختلفة، فعمله لا يشمل موسوعة ويكيبيديا فقط، بل هو يُغطِّي حرية الإنترنت كلها بصورتها العامة، وقد كان يرى أن بعض ما نفعله ليس جيِّداً لصالح الإنترنت العام بالضرورة.

ضرب تراكية مثالاً بموضوعٍ كان قد تناوله المؤتمر سابقاً في اليوم ذاته، وهو ويكيبيديا صفر. مع أنَّ فكرة ويكيبيديا صفر تُساعد الكثير من الناس الذين لا يملكون اتصالاً جيداً بالإنترنت على تصفُّح ويكيبيديا والمشاركة في بنائها، إلا أنَّها تحرمهم من التعرف على ما يحتويه الإنترنت غيرها. فإذا رجعنا للمبدأ الكبير الذي تعمل عليه ويكيبيديا، وهو جعل المعرفة متاحة للجميع بحُريَّة ودون مقابل، فإنَّ ذلك المبدأ لا يقتصر على ويكيبيديا بذاتها، بل هو يشمل كلَّ ما في الإنترنت من محتوى ومواد ومعلومات، والتي يُفترض أن يستطيع جميع الناس الوُصول إليها بالتساوي. مع أنَّ ويكيبيديا صفر يُقدِّم نتائج جيدة في الوقت الحاضر، لكنَّه يتعارض مع الرسالة الكبرى التي تعمل الموسوعة لأجلها.

wikiarabia_2016_282729
جانب من إحدى محاضرات اليوم الأول.

تناول عيسى المحاسنة، رئيس الجمعية الأردنية للمصدر المفتوح، موضوع رخص المشاع الإبداعي (Creative Commons) في المداخلة الأخيرة لليوم الأول. أوضح عيسى أنواع رخصة المشاع الإبداعي المُختلفة، وما يتعارض أو يتوافق منها مع قوانين ويكيبيديا، إضافة إلى شيءٍ من تاريخ رُخص حماية الملكية الفكرية في العالم.

كان يُفترض أن تنتهي أنشطة اليوم في السَّاعة الرابعة والنصف، لكن تبيَّن لنا أنَّ ضبط تواقيت المحاضرات وإجبار أصحاب الجلسات على الالتزام بها، مهمَّة غير سهلة في الواقع. انتهينا فعلياً قبل السادسة بقليل، ومن حُسن حظِّنا أن إدارة الفُندق تسامحت معنا لعدم وجود حجزٍ مسبقٍ للقاعات في ذلك اليوم.

اليوم الثاني:

الحقيقة هي أنَّ مقدار ساعات نومي القليلة كان قد بدأ يتراكم على نحوٍ سيء جداً بدءاً من اليوم الثاني فصاعداً، بحيث إنِّي فقدت القدرة على التركيز بمُعظم مداخلات المؤتمر. كنت محتاجاً لإبقاء نفسي منشغلاً أغلب الوقت بنشاط من نوعٍ ما لأتجنب أن أغفو على مقعدي، ولذلك لم أستطع الاستماع بانتباه إلا لقليلٍ من المحاضرات. عدا عن ذلك، كان اليوم الأول هو الأكثر ازدحاماً وغنى بالفعاليات، ولذلك فمن الطبيعي، على ما أعتقد، أنَّ تغطية هذه التدوينة لليومين التاليَين ستكون أقلَّ شمولية.

wikiarabia_2016_day_2_28229
طاي وكيسي من مؤسَّسة ويكيميديا.

افتُتح هذا اليوم بمُحاضراتٍ من مُمثلي مؤسَّسة ويكيميديا، حاولوا فيها نقل خبراتهم بتنظيم الفعاليات والمشاريع والترويج لويكيبيديا إلى المُجتمع العربيّ. تناولت أماندا بيتاكر من فريق تقييم المشاريع في المؤسَّسة أساليب تحسين أنشطة ويكيبيديا التعريفيَّة والتدريبيَّة، وتحدثت عن خبرتها وتجاربها في هذا المجال.

كانت هناك مداخلة لولاء عبد المنعم من مصر عن مسابقة ويكي المرأة، وهي مبادرة تسعى لزيادة المحتوى النسائي على صفحات ويكيبيديا العربيَّة. ثم جاءت كلمة لإيمانيول إنغلهارت من سويسرا عن مشروع كيويكس، الذي يهدف إلى توفير كل محتوى ويكيبيديا على هيئة ملفٍ يُمكن تحميله وتصفُّحه بدون اتصالٍ بالإنترنت. يساعد كيويكس كل عامٍ العديد من طلاب المدارس والجامعات في الدول الفقيرة (مثل أفريقيا) على الوصول إلى مقالات ويكيبيديا دون الحاجة إلى تحمُّل تكلفة اتصال بالإنترنت. فضلاً عن ذلك، ذكر إيمانويل فكرة تسعى إلى تهريب نسخٍ من كيويكس إلى كوريا الشمالية، لإيصال ويكيبيديا إلى سُكَّان الدولة الذين لا يملكون اتصالاً بالإنترنت.

ويكي طب ومبادرة بالعربي:

شارك زياد الراجحي ومصعب الشريف من السعودية تجربتهما الناجحة في تنظيم نشاطات لترجمة مقالاتٍ لويكيبيديا العربيَّة. زياد ومصعب طالبا طب في جامعة الملك سعود بمدينة الرياض، أرادا حثَّ زملائهما على ترجمة المقالات الطبية من ويكيبيديا الإنكليزية إلى العربية، ونظَّما لأجل ذلك عدة نشاطات ممتازة لترجمة مقالات ويكيبيديا جماعياً تدعى “الويكيثونات”، حيث يجتمع عدد كبير من الطلاب للتعاون معاً على كتابة المقالات خلال مُدَّة زمنية قصيرة. لم ينجح زياد ومصعب بكسب عدد كبير من المُتطوِّعين للمشاركة في هذه النشاطات فحسب، بل حصلا على رعاةٍ وشركاء لمساعدتهما، منهم مطعم بيتزا دومينوز، الذي عرض توفير وجبات مجَّانية للمشاركين في الويكيثونات. بالتأكيد، ليس من حافزٍ لجمع الناس في مكانٍ واحدٍ أفضل من الطعام المجاني.

12717994_1696210587305147_7982221642360585883_n (1)
مجموعة من أعضاء مبادرة بالعربي.

كان التاليون على المنصَّة أعضاء مبادرة بالعربي. قد تكون هذه المُبادرة أكبر مشروع غير رسميّ (لا تشترك فيه مؤسَّسة ويكيميديا) يختصُّ بتطوير محتوى ويكيبيديا العربيَّة، والمدهش في الأمر هو أنَّ كادر العمل فيه لم يشمل أيَّ ويكيبيديِّين مُتمرِّسين، إنَّما بدأه وقاده وأنجزه بالكامل طلاب جامعيُّون ليست لديهم خبرة سابقة تذكر مع الموسوعة. أطلقت مبادرة بالعربي في مُنتصف شهر آذار سنة 2015، حيث بدأ فكرتها مجموعة من طلبة الطب في الجامعة الأردنية، فأقاموا نشاطاً تعريفياً دعوا فيه زملائهم للمساعدة برفع مستوى المحتوى الطبي على ويكيبيديا العربيَّة.

جذبت المُبادرة عدداً عملاقاً من المُتطوِّعين، بحيث ظهرت الحاجة إلى المزيد من التنظيم، فانقسم المُشاركون إلى فرق يعمل كلٌّ منها على إنجاز مرحلة مُعيَّنة من العمل على كل مقالة من المقالات. ففي البداية فريق الترجمة، ثم التدقيق اللغوي، والأمانة العلمية، وأخيراً فريق النشر. كانت النتائج عظيمة جداً، فقد خرجت المبادرة بنحو 1200 مقالة طبيَّة جديدة تُرجمت ترجمة كاملة إلى اللُّغة العربيَّة بمساعدة حوالي 1600 مُتطوِّع، ورُفعت كلَّها على ويكيبيديا في 10 ديسمبر الماضي أثناء فعالية كبيرة في الجامعة الأردنية تحتَ شعار “بداية القطف”.

اجتمعتُ أنا وصديقي أسامة خالد (الذي لديه، بالمناسبة، مُدوَّنة رائعة عن الثقافة الحُرَّة يحذو بك الاطلاع عليها) مع أعضاء المُبادرة بعد انتهاء مداخلتهم، لنُناقش إمكانية تأسيس آلية تواصل بين مجموعة بالعربي ومجتمع ويكيبيديا العربيَّة. فمع أنَّ وُجود مبادرة بهذا الحجم ظهرت دون مساعدة من مجتمع ويكيبيديا هو أمرٌ رائعٌ بحقّ، إلا أنَّ استمراريَّتها ستتطلَّب – بنظري – تحوُّلها إلى عمل مشتركٍ مع مجتمعنا، فويكيبيديا هي موسوعة قائمة على التعاون بين جميع الناس من مُختلف الأطياف والخلفيات، ولذا لا بُدَّ لمتطوعي المُبادرة أن يندمجوا فيها ويتعرَّفوا على الويكيبيديِّين القدامى ليتمكَّنوا من العمل بالتناغم معهم.

أخذ هذا الاجتماع ما تبقى من وقت المؤتمر في يومه الثاني، لذلك لم أستطع حضور أيِّ جلساتٍ أخرى. ذهبَ المشاركون في زيارة مسائيَّة إلى متحف وصفي التل بمدينة السَّلط بعد انتهاء أنشطة المؤتمر، لكني كنتُ مرهقاً جداً بحيث إني اضطررتُ للاستغناء عن المشاركة في الرحلة.

ورشة البوت:

في بداية اليوم الثالث والأخير من فعاليات المؤتمر، انقسمت المحاضرات مرة أخرى إلى خطَّين مُتوازيَين: أحدهما في القاعة الكبيرة، والآخر في الصَّغيرة. تكلمت كيسي هارولد من مؤسَّسة ويكيميديا عن أساسيات قصِّ الحكايات، وهو أسلوب جوهريٌّ تستعمله المؤسسة في نشاطاتها للترويج لفكرة ويكيبيديا وتشجيع الناس على المشاركة فيها، من خلال تقديم قصص نجاح الويكيبيديِّين لهم بطريقة مُلهمة. نبَّهت كيسي إلى أنَّ عليك (عندما تقصُّ حكاية) أن تأسر انتباه الجمهور في الثواني السَّبع الأولى بعد صعودك المنصة، وإلا فقد يكون تأثيرك عليهم قليلاً جداً، ونصحت بأنَّ بداية كل قصَّة مقنعةٍ يجب أن تحتوي رسماً بيانياً إحصائياً للتدليل على النتائج، ثم اقتباساً من شخصيَّة مشهورة يدعم الفكرة، ثم حكاية عن تجربة تطبيق ناجحة للفكرة، وأخيراً عرضاً لما تعلَّمته من هذه التجربة.

مع أنَّ محاضرة كيسي كانت شيِّقة بدرجة كبيرة، إلا أني لم أستطع حضور قسم كبير منها لأني كنتُ قد سجَّلت لحضور ورشة أسامة عن تشغيل البوتات. البوتات هي برامج حاسوبية مكتوبة بلغة بايثون نستعملها لإجراء أعدادٍ كبيرة من تعديلات الصيانة التكرارية على ويكيبيديا،  يُمكن للبوت الواحد أن يقوم بـ100 تعديل على مقالات الموسوعة خلال دقيقة أو اثنتين، بينما سيحتاج إجراء عدد مثل هذه يدوياً إلى ساعة أو أكثر. تستطيع البوتات إجراء العديد من المهام المُفيدة، مثل إضافة الصور والقوالب، وإنشاء التصانيف، وتدقيق المقالات إملائياً.

عادة ما تعتمد النسخ الكبيرة من ويكيبيديا كثيراً على البوتات لتوفير الوقت والجُهد على مساهميها، لكنَّ عدد من يتقنون استخدام هذه البرامج في ويكيبيديا العربيَّة يكاد يكون مُنعدماً، لذلك كنا قد طلبنا من أسامة تولِّي تنظيم ورشة تدريبيَّة في أثناء المؤتمر. حضر الورشة 20 شخصاً تقريباً، وقد نجح أسامة بإدارتها بكفاءة مُمتازة رغم عدم وُجود أحد يُساعده في متابعة المشاكل التي تواجه الحضور مراراً وتكراراً.

wikiarabia_2016_283429
في واحدة من الاستراحات بين المحاضرات.

بالنسبة لي، كان حظي سيِّئاً بحيث واجهت مشكلة تقنية في تسجيل الدخول إلى بوتي بعد حوالي نصف ساعة من بدء الورشة، وبما أنَّ أسامة انهمك بإصلاح مشاكل كثيرة أخرى لدى الزملاء الآخرين، وبدا أن مشكلتي ستسهلك الكثير من الوقت لإصلاحها، لذا اتفقنا – في نهاية المطاف – على أن يُعطيني درساً خصوصياً في اسعمال البوت فيما بعد. بالطَّبع، تهرَّب أسامة من تلك المسؤولية بمكرٍ بالغ، وعاد إلى السعودية دون أن يعطيني أي نوع من الدروس.

ويكي بيانات:

أظنُّ أنَّ محاضرة حلمي حمدي من تونس عن ويكي بيانات هي واحدةٌ من أفضل المداخلات التي حظينا بها في مؤتمر ويكي عربية. ويكي بيانات هي منصَّة تابعة لويكيبيديا، تُخزَّن عليها بيانات ويكيبيديا بلغاتها المختلفة. عندما تفتحُ مقالة على الموسوعة وتُحدِّق في شريط اللغات على الجانب الأيمن باحثاً عن نُسخة منها بلغة أخرى، فإن الوصلات التي أمامك تكون مُخزَّنة على ويكي بيانات. الكثير من المقالات لا تكون مرتبطة مع مقابلاتها في اللغات الأخرى بالطريقة الصَّحيحة، ومن هنا تبرز أهميَّة العمل في ويكي بيانات.

جهَّز حلمي عرض شرائح متقناً جداً لمحاضرته ورفعه إلى ويكيميديا كومنز، كان العرض مُزوداً بالروابط والصور التوضيحية بطريقة ممتازة، ويُغطي مختلف جوانب العمل في ويكي بيانات. المؤسف في الأمر هو أنَّ عدداً جيِّداً من المشاركين واجهوا مشكلات طويلة مع فتح العرض واستخدامه في بداية المحاضرة، وأهدرت معالجة هذه المشكلات الكثير من الوقت، ممَّا اضطرَّ حلمي إلى اختصار جزء كبير من عرضه.

ختام المؤتمر:

انتهت أنشطة اليوم الثالث والأخير في الساعة الثالث ظهراً، قبل الموعد المُعتاد بساعة، وذلك لأنَّنا خططنا لأن يكون ختام المؤتمر في متحف الأردن. كانت آخر محاضرة في المؤتمر مُختصَّة بموضوع الـ”GLAM”، وهو مصطلحٌ يصف التعامل مع المتاحف والمكتبات والمؤسسات التراثية الأخرى لتوثيق محتواها على ويكيبيديا بتراخيص حرَّة، لذلك وجدنا أن إقامتها في متحف ستكون فكرة مناسبة جداً.

1280px-wikiarabia_2016_day_3_2873291
أعضاء مجموعة ويكيميديا بلاد الشام.

مع أنَّ المتحف يُغلق أبوابه عادة في اليوم السَّبت، إلا أنَّ الإدارة وافقت على فتحه خصِّيصاً لزوار المؤتمر. لا بُدَّ من القول بأنَّ المكان كان مُبهِراً على أقل تقدير، فهو جديدٌ جداً، ومصونٌ على نحو مُمتاز، وفيه الكثير من المعروضات المُثيرة للاهتمام. واحدة من أكثر الأشياء التي جذبت انتباه زوار المؤتمر كانت حاسوباً عليه برنامج يُهجِّئ اسمك بأربع لغات قديمة مختلفة، ثم يطبعه لك على ورقة مزخرفة يمكنك الاحتفاظ بها، وقد قضت مُعظم المجموعة نصف وقت جولتنا في المُتحف على الأرجح حول هذا الجهاز. لو لم أكن مُخطئاً، كانت اليونانية والآرامية والعمونية من بين اللغات التي يطبع البرنامج اسمك فيها.

أخذت الجولة ساعة تقريباً، وجَّهنا بعدها مشرفو المتحف إلى قاعة مُجهَّزة تجهيزاً كاملاً، حيث بدأ إيمانويل إنغلهارت من سويسرا محاضرة ويكي عربيَّة الأخيرة، وفي الواقع أنَّ صاحب هذه المحاضرة كان يُفتَرض أن يكون ويكيبيدياً هولندياً كنا قد غطَّينا له تكاليف سفره وإقامته خصيصاً ليتحدَّث فيها، لكن طيرانه ألغي في ليلة اليوم الأول من المؤتمر بسبب تفجيرات بروكسل.

عليَّ الاعتراف بأنِّي، ومعي على ما أتوقَّع عدد لا يُستهان به من الحضور الآخرين، كنتُ أكافح للبقاء مستيقظاً عندما وصلنا القاعة. فبعد ثلاثة أيام مُتتالية من النشاط المستمر والفعاليات المُكثَّفة، وبعد أن تبللنا بالمطر في الخارج، وتأخر الوقت بحيث حلَّ الظلام، كنا قد استزفنا تماماً ولم نعد قادرين كثيراً على التركيز. كان ذلك مؤسفاً لأنَّ محاضرة إيمانويل كانت ثريَّة جداً، وقد جذبت اهتمام مسؤولي المُتحف بحيث أنَّهم تقدَّموا إلى المنصَّة وطرحوا أسئلة مُتحمِّسة عن كيفيَّة إقامة تعاونٍ بينهم وبين ويكيبيديا.

12915157_1098717560194487_717991050_o
الصورة الختاميَّة لويكي عربيَّة، في مدخل مُتحف الأردن.

انتهت المحاضرة في نحو السَّاعة السادسة مساءً، تلاها الكثير من التصفيق، ثمَّ وقفتُ بعدها مشدوهاً لأدرك أنَّ كلَّ شيءٍ كان قد انتهى، فهذه كانت آخر فعاليات ويكي عربيَّة. بعد شهورٍ من التخطيط والإعداد، مضى الحدث سريعاً جداً بحيث أني، حقيقة، لم أشعر بالوقت يمرّ.

مع حُزني لانتهاء ويكي عربيَّة، إلا أنَّه كان تجربة عظيمة جداً بالنسبة لي. عدا عن مُتعة العمل في الفريق، والتحدي الذي يتطلَّبه ترتيب حدث بهذا الحجم، كان كلُّ ما قمنا به إضافة للبشريَّة ومساهمة في بناء ويكيبيديا. من الصَّعب قياس الفائدة المباشرة للمؤتمر الآن، لكن يُمكننا أن نكون واثقين على الأقل، من أنَّه زاد التواصل والتعاون بين الويكيبيديِّين العرب، وعلى ما أرجو أنَّه سيُمهِّد لإطلاق عدد من المشاريع والأفكار التي ناقشناها في أثنائه. في أقل تقدير، ممَّا لا شك به أن المؤتمر كان تجربة ثريَّة ومليئة بالخبرات الجديدة لكلُّ من شاركوا فيه، ولعلَّه يكون حافزاً لتنظيم المزيد من مُلتقيات ويكيبيديا في منطقتنا.

قصَّة موجات الجاذبية


2-black-holes-gravitational-waves
تمثيلٌ لكيفيَّة انتشارموجات الجاذبية حول ثقبين أسودين يتقاربان من بعضهما تدريجياً، حتى يصطدما ويندمجان. كلُّ مرحلة يقترب فيها الثقبان أكثر تُسبِّب انبعاث موجة جديدة.

في عام 1992، أسَّس عالما الفيزياء الفلكية كب ثورن ورونالد دريفر من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) وبروفيسور الفيزياء رينر ويس من معهد ماساتشوتش للتكنولوجيا (MIT) مرصداً فيزيائياً كبيراً في ولاية لويزيانا الأمريكية، تحت اسم “LIGO”، وهو اختصار إنكليزي لعبارة مرصد التقاط موجات الجاذبية الليزري. جذب المشروع اهتمام عددٍ كبير من الجامعات والمعاهد العلمية في الولايات المتحدة، إضافةً إلى العديد من الدول المُتقدِّمة في البحث العلمي، حتى وصل عدد العاملين فيه والمسؤولين عن تشغيله إلى أكثر من 900 عالم من مُختلف المجالات. بدأ المرصد عمله الفعلي بعد عشر سنوات، ورُغم صرف قرابة المليار دولارٍ على تشغيله وصيانته، إلا أنَّه لم يأتِ بأيَّة نتائج. بفضل هذه التكلفة الهائلة، يُعتبر مرصد موجات الجاذبية واحداً من أكبر المشاريع العلميَّة التي موَّلتها حكومة الولايات المتحدة في تاريخها. لكن منذ سنة 2010 توقَّف عمل المرصد لإجراء صيانة وتطوير. في بداية العام الماضي استُبدلت أجهزة المرصد القديمة بأخرى أحدث بكثير، تُسمَّى “LIGO Advanced”. منذ ذلك الحين، لم تعلن مُنظَّمة “ليغو” عن أي نتائج جديدة من مرصدها، إلا أنَّ بعض الشائعات بدأت تحوم – مع بدء العام الجديد – عن تحقيق اكتشافٍ مهمٍ ما. تزايدت الشائعات باصطرادٍ على مرِّالأيام الأخيرة، حتى عُقد مؤتمر صحفيٌّ يوم الخميس الفائت، أعلن فيه رسمياً عن التقاط أوَّل موجة جاذبية في تاريخ العلم.

ما هي موجات الجاذبية؟

ptas
تُمثل هذه الصورة التصوُّر الذي وضعه آينشتاين عن كيفية عمل قوة الجاذبية، حيث أنَّ لكل جسمٍ مجالاً جذبياً يتناسب مع كتلته يُتسبَّب بانحناء الفضاء حوله، وجذب الأجسام الأخرى باتجاهه.

يعود تاريخ مفهوم أمواج الجاذبية إلى مطلع القرن الحالي. فقبل القرن العشرين، كان مُجتمع علماء الفيزياء لا يزال مُستسلماً للتصور القديم الذي وضعه نيوتن عن قوة الجاذبية، ولم يفكر أحدٌ بوضع نموذجٍ بديل عنه. لم تتغيَّر هذه الحال حتى نشر الفيزيائي الألماني المتخرج حديثاً، ألبرت آينشتاين، بحث النسبية الخاصة في سنة 1905، الذي أتبعه بالنسبية العامة بعدها بعشر سنوات. أثبتت نظرية النسبية نجاحاً باهراً في تفسيرها لطريقة عمل الجاذبية، فقد أثبتت التجارب خلال السنوات اللاحقة صحَّة مُعظم المفاهيم والتصورات قدمتها. كانت إحدى التصورات الجديدة الأساسية التي وضعتها نظرية آينشتاين عن الجاذبية هي أنها قوة تأثيرها محدود بامتداد مجالها، فمثلما أن لأسلاك الكهرباء والمغناطيسات مجالاتٍ حولها تنقل قوتها، فإن للجاذبية أيضاً مجالاً مماثلاً ولا يُمكنها أن تحدث تأثيراً على جسمٍ إلا لو وقع ضمنه. على سبيل المثال وحسب التصور القديم لنيوتن، إذا ما حدث وأن اختفت الشمس فجأة في أحد الأيام فإنَّ الأرض ستخرج من تأثير جاذبيتها على الفور وتبدأ بالانجراف في الفضاء بحُريَّة. لكن وفق نظرية آينشتاين، لا يُمكن لجاذبية الشمس أن تفقد تأثيرها على الأرض حتى تخرج من مجال الشمس الجذبي، وهذا المجال ينتشر عبر الفراغ بسُرعة الضوء. بما أنَّ بين الأرض والشمس مسافة 150 مليون كيلومتر، أي 8 دقائق ضوئية تقريباً، فحتى لو حدث وأن اختفت الشمس من عالمنا فجأة، ستسمرُّ الأرض بالدوران على وتيرتها المُعتادة لمدة ثماني دقائق.

الآن، ولفهم عمل موجات الجاذبية، دعنا ننتقل قليلاً إلى الذرات. على الأرجح أنَّك تذكر أن نواة الذرة مُكوَّنة من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات محايدة، وتُحيط بهذه النواة إلكترونات سالبة تبقى قريبةً من النواة بسبب انجذابها نحو البروتونات المتضادة معها في الشحنة. الشيء الذي يجعل الإلكترونات ترتبط بالبروتونات هو المجال الكهرومغناطيسي، وهو يُطابق في عمله مجال الجاذبية تقريباً، فهو ينتشر في كل الاتجاهات بسُرعة الضوء، ولا يُمكن للقوة الكهرومغناطيسية أن تحدث تأثيراً إلا من خلاله. هذه كلها مجالات، أين يأتي دور الموجات إذاً؟ إن كل إلكترون حول نواة الذرة له مستوى طاقة مُعيَّن، والمسافة التي بينه وبين النواة تتناسب طردياً مع مستوى الطاقة هذا، فالإلكترونات الأقرب إلى النواة لها طاقة أقل. لكن عندما تتعرَّض الذرة لحالة إثارةٍ ويزداد مستوى الطاقة فيها، يُمكن أن يقفز إلكترون إلى مستوى طاقة أعلى من مستواه الأصلي، وذلك يجعل حالة الذرة غير مستقرة. لذا، بعد مضي فترةٍ من الوقت سيعود الإلكترون إلى مستوى طاقته الأصلي، بعد أن يتخلَّص من طاقته الزائدة على شكل فوتون يُطلقه بعيداً عن الذرة. هذا الفوتون هو المُكوِّن الأولي لأشعة الضوء، أو – بعبارةٍ أخرى – الموجات الكهرومغناطيسية.

figure05-21b
ينبعث الفوتون من الذرة عندما يرتفع مستوى طاقتها عن الحد الذي يجعلها مُستقرَّة. تنبعث موجات الجاذبية بطريقة شبيهة جداً.

نفس هذه الظاهرة تقريباً يُمكن أن تحدث في حالة الجاذبية. فمجالات الجاذبية تدفع الأجسام في الفضاء للدوران حول بعضها، وكلما اقترب جسمان من بعضهما، كلما اقتربت الأرض من الشمس مثلاً، ستخضع لتأثير أقوى من مجال جاذبية الشمس، ولذلك ستزداد سُرعة دورانها حولها. لكن الأرض تقترب وتبتعد عن الشمس باستمرارٍ على مرِّ السنة لأن مدارها بيضاوي الشكل، ولذلك بعد مضي مُدَّة من الوقت، سرعان ما ستبتعد ثانية، وعندها ستتباطأ سرعتها، وسوف تطلق طاقتها الزائدة على شكل موجة جاذبية. ستنتشر هذه الموجة عبر الفضاء بسُرعة الضوء نحو جميع الاتجاهات، تماماً مثل الأمواج الكهرومغناطيسية.. أي الضوء نفسه. على عكس موجات الضوء التي تكون عادةً أصغر حجماً بكثير من مصدرها، بحيث أن طولها لا يتجاوز عدَّة كيلومتراتٍ على الأكثر وفي بعض الأحوال يكون أقصر من قطر الذرة، فإنَّ موجات الجاذبية تكون أضخم بكثيرٍ من المصدر الذي تنبعث منه، حيث يُمكنها (نظرياً) أن تكون بحجم كوننا بأكمله، بل من المُمكن أن تتجاوز في حجمها حجم الكون، لولا أنَّ ذلك سيجعل الإحساس بها أو اكتشافها مستحيلاً علينا.

من أين تأتي أمواج الجاذبية؟

قد تكون قرأت في بعض الصفحات العلمية عن مصدر موجات الجاذبية، رُبَّما مرَّ عليك أنها تنبعث من اندماج ثقوب سوداء أو تصادم نجوم نيوترونية أو أشياء غريبة كهذه، لكن ذلك على الأرجح أعطاك الفكرة الخاطئة عن هذه الموجات. بالحقيقة، أمواج الجاذبية منتشرةٌ في الكون بقدر ما هو الضوء منتشر: ومثلما أن الضوء هو موجة منبعثة من تفاعلات القوة الكهرومغناطيسية، فإنَّ موجات الجاذبية تنبعث من تفاعلات تجاذبية، بحيث أنَّ جذب الأرض لجسدك قادرٌ لوحده على إصدار أمواج جاذبية تحت ظروفٍ ما. لماذا إذاً لم تسمع عن انبعاث هذه الموجات إلا عند وُقوع ظواهر غريبة في الفضاء البعيد، مثل انفجار النجوم أو دوران الثقوب السوداء بسُرعاتٍ فائقة حول بعضها؟ السبب ليس أن أمواج الجاذبية لا تصدر إلا من ظواهر كونية نادرة، بل لأننا لا نستطيع أن نلتقطها إلا عند انبعاثها من تلك الظواهر.

binary-black-hole-collision-ligo-sxs
مع أنَّ موجات الجاذبية موجودة في كل مكانٍ حولنا، إلا أنَّها ضعيفة جداً بحيث أن الإحساس بها بتقنيتنا الحالية أمرٌ مستحيل. الأجهزة المتوافرة لنا حالياً لا يُمكنها التقاط هذه الموجات إلا عندما تصدر عن ظواهر عنيفة جداً، مثل اندماج ثقبين أسودين (هذه الصورة مُجرَّد تمثيل بسيط، فتصوير الثقوب السوداء أمر مستحيل).

حسب تصورنا الحالي عن الكون، توجد أربع قوى فيزيائيَّة رئيسيَّة تحكم كل التفاعلات التي نراها من حولنا، هذه القوى هي: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة، والشديدة. إجمالاً، تُعتبر القوة الكهرومغناطيسية القوة المُسيطرة على التفاعلات الفيزيائية على مستوى الذرات والجسيمات تحت الذرية، بينما تسيطر الجاذبية على التفاعلات بين الأجسام الكبيرة في الكون مثل الكواكب والنجوم. يُمكن تمثيل ذلك بأنَّ الجاذبية، رغم أنها قوة تؤثر على أي جسمين لهما كتلة، لا تلعب أي دورٍ يذكر بربط الجزيئات والذرات في عالمنا. فالقوة الكهرومغناطيسية هي التي تربط الإلكترونات بنوى الذرات، وأما القوى النووية الضعيفة فهي التي تجمع بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة. أما الجاذبية فليس لها دورٌ يذكر في ربط مكونات الذرة ببعضها بعضاً، وذلك لأنها قوة كونية ضعيفة.

فكر بالأمر، هل سبق وأن شعرت بأي تأثير للجاذبية على حياتك اليومية؟ نظرياً، جسمك يؤثربقوة جذبٍ على لوحة المفاتيح القابعة أمامك، وعلى الشخص الجالس بجانبك، وكذلك على البناء الذي تجلس فيه. لكن هذه القوة صغيرة جداً بحيث يستحيل أن تشعر فيها (مع العلم أن ثمَّة عوامل أخرى على سطح الأرض ستجعل ملاحظة تأثير هذه القوة عليك شبه مستحيلة). مع ذلك، لولا قوة الجاذبية لكنا نطفو الآن في الفضاء. هنا يكمن الأمر: فلكي تشعر بأي أثر لقوة الجاذبية، عليك أن تتعامل مع أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. فمع أنَّ قوة الجاذبية لا تكاد تحمل أي تأثير على الذرات والجزيئات الصَّغيرة، إلا أنها هي القوة الأساسية التي تربط كل الأجسام الكبيرة في الكون تقريباً. فنحنُ متعلقون بالأرض، والأرض مرتبطة بالشمس، والشمس مرتبطة بمركز المجرة، والمجرة مرتبطة بالمجموعة المجرية المحلية، فقط بفضل الجاذبية.

بالعودة إلى النقطة الأولى، مثل جميع تأثيرات قوة الجاذبية، فإنَّ موجات الجاذبية الصَّادرة عن التفاعلات بين الأجسام المُحيطة بنا تكون في مُعظم الأحوال صغيرة جداً، أصغر ممَّا يُمكنك أن تتخيل بأي حال، بحيث أن الإحساس بها في مُعظم الأحوال مستحيلٌ حتى بأكثر التقنيات المتوافرة لنا تطوراً وتقدماً. حسب مثالٍ أعطاه فيزيائي من مُنظمة “ليغو” (المنظمة التي حققت الاكتشاف)، لو كان لدينا جسم يمتد من الشمس حتى أقرب النجوم إلينا، وهو نجم بروكسيما القنطور، أي على امتداد مسافةٍ تعادل نحو 25 ترليون كيلومتر، ومرَّت عبره موجة جاذبية قويَّة صادرةٌ عن تصادم ثقبين أسودين مثلاً، فإنَّ تأثيرها عليه سيقتصر على ضغطه بمقدارٍ يُماثل سمك شعرة من رأس إنسان.

لهذا السبب، نحن لسنا قادرين بالتقنية المتوافرة لنا الآن على التقاط أمواج الجاذبية أو الإحساس بها إلا عند وُقوع ظواهر كونيَّة نادرة شديدة العُنف، تُسبِّب تفاعلاتٍ شديدة بين أجسامٍ لها كتلة ضخمة جداً. بما أنَّ الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية هي من بين أعلى الأجسام كتلةً في الكون وأكثرها كثافة، فإنَّ لها قوة جاذبية هائلة تجعلها مرشحات ممتازةٍ لإصدار موجات جاذبية يُمكننا التقاطها بتقنياتنا الحالية. من المُحتمل أن نستطيع في المستقبل البعيد رصد أمواج الجاذبية الصَّادرة عن تفاعلاتٍ بسيطة، مثل دوران الأرض حول الشمس أو التجاذب بين الأرض والقمر، لكنَّ ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر.

كيف تمكن العلماء من اكتشاف شيءٍ مثل هذا؟

مع أنَّ الفزيائي الألماني ألبرت آينشتاين تنبأ بوُجود موجات الجاذبية قبل أكثر من 100 عام، إلا أنَّه اعتقد بالحقيقة أنها لن تكتشف أبداً، لأن “التقاطها مستحيلٌ بالنسبة إلينا”. في الواقع أيضاً، مع أن آينشتاين كان أول من اقترح وُجود هذه الموجات عندما طرح نظرية النسبية العامة، إلا أنَّه غير رأيه ونفى وجودها في ورقة نشرها سنة 1936.

صدرت الموجة التي تحقَّق بفضلها اكتشاف موجات الجاذبية من اندماج ثقبين أسودين وقع قبل 1.3 مليار سنة، أي عندما كانت لا تسكن كوكب الأرض سوى بكتيريا وحيدة الخلية، لكنَّ هذا الحدث وقع على مسافةٍ بعيدة جداً عنا بحيث لم تصل أمواج الجاذبية الصَّادرة عنه (والتي تسير بسُرعة الضوء) إلينا حتى شهور قليلة من الآن. التقطت أجهزة “LIGO” الموجة الصَّادرة عن اندماج الثقبين في 14 سبتمبر الماضي، حيث دام تأثيرها على الجهاز لمدة 0.2 ثانية تقريباً. سجَّلت أجهزة الحاسوب عُبور الموجة خلال ثلاث دقائق، لكنَّ تحليل البيانات والتأكُّد من صحتها أخذ عدَّة شهور. يعتبر مصدر هذه الموجة أعنف حدث رصدته البشرية في التاريخ، فقد كان الثقبان الأسودان يدوران حول بعضهما بسُرعة تتعدَّى 60% من سرعة الضوء قبل انبعاث الموجة مباشرة، وأدى تصادُمهما إلى إطلاق كميَّة من الطاقة تعادل 50 ضعف الطاقة التي تُشعِّها جميع نجوم الكون مُجتمعة. حوَّل الاصطدام كميَّة من المادة تماثل في كتلتها ثلاثة أضعاف كتلة الشمس إلى موجة جاذبية هائلة تعبر الفضاء بسُرعة الضوء، وتُسبِّب تموُّجاً في نسيج الفراغ الذي تمرُّ من خلاله.

ligo
ما تراه أمامك هو المرصد الذي اكتشف موجات الجاذبيَّة! هذه الأنابيب البيضاء الطويلة هي أنفاقٌ يمتد كل واحدٍ منها مسافة أربعة كيلومترات، يوجد عند نقطة التقائها جهاز يبعث شعاعاً من الليزر. يعبر الليزر كل نفقٍ بأكمله حتى ينعكس على مرآة في طرفه البعيد ويعود مرَّة أخرى.

لعلَّ أكثر جزءٍ مدهشٍ من اكتشاف موجات الجاذبية هي الطريقة التي تحقَّق بها الاكتشاف، فقد تطلَّب الأمر استعمال جهازٍ يُمكن أن يكون واحداً من أدق الآلات التي اخترعها البشر. يتكوَّن الجهاز الذي صمَّمته منظمة “ليغو” للالتقاط أمواج الجاذبية (وهو يُسمَّى الـ”Interferometer”) من نفقين طول كل واحدٍ منهما أربعة كيلومترات، يلتقيان عند أحد الطرفين. قرب نقطة الالتقاء يوجد جهاز يبث شعاعاً من الليزر، يمرُّ هذا الشعاع أولاً عبر منشورٍ يقسمه إلى خطين متعامدين: كلٌّ منهما يذهب عبر أحد النفقين. عند نهاية كلِّ نفق توجد مرآة تُعيد عكس الشعاع نحو نقطة انبعاثه. عندما يعود شعاعا الليزر إلى نقطة انبعاثهما يلتقيان في نفس النقطة وعند نفس التوقيت تماماً، وبما أنَّ كليهما يتكوَّنان من موجات كهرومغناطيسية متماثلة الطول والتردد، فإنَّهما يُلغيان بعضهما كلياً، ولذلك تختفي جميع أشعة الليزر العائدة من النفقين عندما تصطدم بالمنشور. أو هذا ما يُفترض أن يحدث تحت الظروف الطبيعية.

screen20shot202016-02-1120at208-23-5720am
هكذا يبدو الـ”Interferometer” من الداخل تقريباً. يبث الجهاز الأسطواني في الأسفل شعاعاً من الليزر، ينقسم عنده مرور بمنشورٍ إلى جزئين، ينعكسان في نهاية كل نفقٍ ليعودا ويلتقيا معاً، وعندها يلغيان بعضهما. لو مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز ستغيِّر أطوال الشعاعين، ولذلك سيتمكَّن أحدهما من عبور المنشور والوصول إلى لاقط الضوء مُربَّع الشكل.

إذا ما حدث وأن مرَّت موجة جاذبية عبر الجهاز، ستتغيَّر أطوال شعاعي الليزر. فعندما تمرُّ موجة جاذبية عبر مادة أو وسطٍ من أي نوع، تُسبِّب تمدداً أو تقلُّصاً صغيراً فيه، ولذلك فإنَّ مرورها بشعاع الليزر سيجعل موجاته أقصر أو أطول قليلاً. هذا التغير بسيط جداً، بحيث أنَّ طول الشعاع سينقص أو يزداد بمقدارٍ أقل بكثير من حجم ذرة، لكنه سيحدث تأثيراً مُهماً: فعندما يلتقي شعاعا الليزر عند المنشور، لن يلغيا بعضهما هذه المرة، لأن أطوال موجاتهما أصبحت مختلفة. لهذا السبب، سيتمكَّن جزءٌ من الليزر من عبور المنشور، وسيلتقطه على الفور مستشعرٌ عالي الحساسية. يُمكن أن يعبر الليزر المنشورعدَّة مرَّاتٍ أثناء اصطدام موجة جاذبية به. في 14 سبتمر الماضي، تسبَّبت موجة الجاذبية التي اصطدمت بهذا الجهاز بعبور الليزر 8 مرَّات متتاليةٍ خلال مدة لا تتعدى 0.2 من الثانية.

ما فائدة هذا الاكتشاف إذاً؟

fermi_3_month_labeled_new-large
يُمكن للعلماء رصد السَّماء بطُرق مختلفة، منها التقاط أشعة غاما كما في خريطة السَّماء هذه، لكن جميع هذه الطرق تنحصر بأنواع مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسية، فقد كان الضوء (حتى وقتٍ قريب!) طريقتنا الوحيدة للتعرُّف على الكون.

لكي أكون شفافاً معك، يمكنني القول أنه بالنسبة إليك.. لن يُحدث هذا الاكتشاف أي تأثير ذا قيمة على حياتك أو حياة أي إنسانٍ في أي وقتٍ قريب. بالأساس، نحنُ لا نعرف أي تطبيقات تكنولوجية قيِّمة حالياً لهذا الاكتشاف، وقد لا نجد أي تطبيقاتٍ له في المُستقبل. بالنسبة للعلم، فإنَّ قيمته هي في زيادة معرفتنا عن الكون المُحيط بنا فحسب. حتى الآن، كل ما نعرفه عن الفضاء الخارجي يقتصر بالكامل تقريباً على الأمواج الكهرومغناطيسية التي نرصدها من الأجسام البعيدة، هذه الأمواج يُمكن أن تكون ضوءاً مرئياً أو أشعة سينية أو أشعة غاما أو أمواجاً راديوية، وعلى أي حال، فهي العدسة الوحيدة التي أمكننا حتى الآن أن ننظر إلى الكون من خلالها. أما الآن، فقد حصلنا على أداةٍ جديدةٍ تماماً ولأول مرة في التاريخ نستطيع جمع المعلومات عن كوننا عبرها. ليس ذلك فقط… بل إنَّ هذه الأداة قد تكون المفتاح لفهم ظواهر كونيَّة لا يُمكننا التعرُّف عليها عبر الضوء أصلاً، مثل الثقوب السوداء.

مُعظم الأجسام الواقعة في الفضاء الخارجي تبعد عنا مسافاتٍ هائلةٍ جداً، بحيث أن إلسفر إليها أو حتى إرسال المركبات الاستكشافية يغدو مستحيلاً أو شديد التكلفة عند نقطة ما. حتى الآن، لم يسافر أي بشري لمسافة أبعد من من القمر، أي نحو 385 ألف كيلومتر من الأرض، كما لم تصل إلينا أي عيِّنة فضائية من مكانٍ أبعد من القمر سوى بعض المذنبات والكويكبات. أما أبعد مسافة ابتعدتها مركبة فضائية بشرية الصُّنع فهي فوياجر 2 التي قطعت نحو 16 مليار كيلومتر بعد 40 سنة من إطلاقها، وهو ما يُعادل أقل من 0.03% من المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا. لهذه الأسباب كلها، فإنَّ الطريقة الوحيدة المتاحة لنا لدراسة الكون تقريباً هي الضوء الذي نلتقطه منه، الضوء الذي يسافر مئات وآلاف السنوات ليَصل إلينا فقط. قد تعتقد أن تنوُّع مصادر الضوء يُمكن أن يصنع فرقاً، لكن الواقع هو أنَّه وبعدم وُجود وسيلة للنظر إلى الكون سوى الضوء يجعلنا محدودين بخواصه، ومن هذه الخواص أنَّه لا يسير سوى بخطوطٍ مستقيمة، وأنه يمكن أن ينعكس أو يمتصَّ بسهولة إذا ما اصطدم بمادة ما أثناء مجيئه إلينا.

mount_pleasant_radio_telescope
مع أنَّ الوقت مُبكِّر قليلاً لتخمين نتائج هذا الاكتشاف، لكنَّه قد يحدث ثورة نوعيَّة في علم الفيزياء الفلكية، وقدرتنا على دراسة الكون من حولنا.

أحد أبرز الأمثلة على الحالات التي نعجز فيها عن جمع معلومات عن الفضاء هي الثقوب السوداء. هذه الأجسام لها كتلة ضخمة وكثافة شديدة جداً بحيث أنَّها تمنع أي مادة نعرفها من الهرب من مجال جاذبيتها، بما في ذلك أشعة الضوء. كما أنَّ رصد الكثير من المجرات والنجوم يُمكن أن يكون صعباً أو مستحيلاً بسبب وُجود أجسام أخرى أمامها تحجب ضوئها عنها. هذه العقبات تجعل فهمنا للكثير من الأجسام الغريبة في كوننا محدودة، إلا أنَّ اكتشاف موجات الجاذبية – وتطور قدرتنا على رصدها – يُمكن أن يفتح مجالاً جديداً أمامنا. على عكس الموجات الكهرومغناطيسية، لا تتأثر موجات الجاذبية على الإطلاق بالوسط الذي تمرُّ من خلاله، لذلك عندما تصلنا موجة جاذبية مُنبعثةٌ من ثقب أسود يُمكننا التأكد من أنها تحمل معلومات دقيقةً عنه. كما أننا، على فرض أن تقنياتنا ستتطوَّر مستقبلاً، قادرون على التقاط موجات الجاذبية الصادرة عن أي جسمٍ في الكون، بغضِّ النظر عن طبيعته أو موقعه في الفضاء.

الأمر الآخر الذي يجعل العلماء متحمسين كثيراً لاكتشاف موجات الجاذبية هو أنها الحلقة الأخيرة غير المُؤكَّدة بعد في نظرية آينشتاين للنسبية العامة. فقد نجح العلماء حتى الآن بإثبات جميع المفاهيم المُهمة التي طرحتها هذه النظرية، وكانت هذه الموجات هي آخر مفهوم جوهري فيها لم يُثبَت تجريبياً بعد. إنَّ اكتشاف أمواج الجاذبية يعني أنَّ تصور آينشتاين عن قوة الجاذبية كان صحيحاً تماماً، ومع أنَّ معظم العلماء كانوا يتوقَّعون تحقيقه عاجلاً أو آجلاً، فذلك لا يُقلِّل من أهميته الكبيرة لتعضيد فكرتنا عن الكون الذي نعيش فيه. مع أنَّ نظرية النسبية العامة أثبتت نجاحاً تاماً حتى الآن في جميع الاختبارات التجريبيَّة التي أمكن إجراؤها لها، إلا أنَّ طبيعة قوة الجاذبية وعدم سُهولة اختبار تأثيرها إلا في الفضاء الخارجي جعلت إمكانية تجريب نظرية آينشتاين فرصةً نادرةً جداً، لكننا الآن.. قد نكون حصلنا على مفتاحٍ جديدٍ ممتاز لدراسة هذه النظرية، ولفهم فيزياء الكون بأكمله.

دليلُك إلى لعبة المافيا


نشرتُ البارحة موضوعاً تقديمياً عن هذه اللّعبة الجماعية الرائعة، مافيا، وقد حظيَ بكميَّة لا بأسَ بها من التفاعُل، لذا فكّرت بكتابة دليل تفصيلي عن قواعد واستراتيجيات اللعب لمَن يرغبُ بتجربتها مع عائلته وأصدقائه. يُمكنكَ تجريبُ هذه اللّعبة مع أي مجموعة من الأشخاص يزيد عددُهم عن الخمسة، ولن تحتاجوا لشيءٍ إلا لبعض بطاقات اللّعب (الشدة)، أو قلم وبعضِ قُصاصات الورق.

مرّة أخرى، ما هي المافيا؟
المافيا هي لعبة جماعيّة، فكرتُها قائمة على وُجود جماعةٍ من الأشخاص الطيّبين (المُواطنون الصالحون) اندسَّت بينهم عصابةٌ صغيرةٌ من العملاء الأشرار (المافيا). في بداية اللعبة، يتمُّ توزيع مجموعة من بطاقات اللَّعب المُختارة مُسبقاً على اللاعبين، من يحصلُ على بطاقة حمراء يكونُ مواطناً صالحاً، وأما من يأخذ بطاقة سوداء فهو من المافيا. ممنوعٌ على اللاعبين كشفُ بطاقاتهم لأيّ شخص. المافيا يتعرَّفون على بعضهِم عندَ بداية اللعب، وأما المواطنون الصالحون فعليهم التخمينُ والتوقع وقراءة رُدود الأفعال بحذرٍ بالغ للتعرّف على المافيات.

هدفُ المواطنين الصالحين هو اكتشافُ جميع أعضاء المافيا وإخراجهُم من اللعبة، وأما المافيا فعليهم إخراج عددٍ مُعيّن من المواطنين الصالحين – بالخداع والتّضليل – كي يفوزوا.

تتخلَّل اللعبة الكثير من التكتيكات الخاصّة التي ستحتاجُ لمعرفتِها لتستطيع أن تلعبها بطريقة مُمتعة ومثيرة. في جوهر الأمر، تقومُ لعبة المافيا على الحوار، فهي عبارةٌ عن جلساتٍ مُتتابعة من النقاش يتبادلُ اللاعبون خلالها الآراء والاتهامات ليُحاولوا اكتشاف هويَّة أعضاءِ المافيا، ومن ثمَّ يتخذون قراراتٍ جماعيَّة (بالتصويت) ليطردوا لاعبين مُعيَّنين من اللُّعبة إذا ما ازدادت الشّبهات حولهم. في المراحل المُتقدّمة من اللعبة، سترتفع مستويات الأدرينالين والإثارة والتوتّر لتصل أقصاها!

l

البطاقاتُ الخاصّة:
هذه الأوراق هي عبارةٌ عن بطاقات للعب تمنحُ صاحبها ميزاتٍ خاصّة لا يملكها أيّ لاعب آخر، وهي تزيد المُتعة والإثارة في اللعبة عدا عن أنَّها تجعل وقتها أقصر إلى حدٍّ ما. جميع هذه البطاقات تستعملُ في نهاية دورات اللعب، فبعد أن يُغمضَ الجميع عيونهم، يُنادي الـDealer على أسماء أصحاب البطاقات الخاصة ليقوموا باستخدامها. وهي كالتالي:
* شيخ المواطنين الصّالحين: (بطاقة King حمراءُ اللون): لديه القُدرة على أن يسأل الـDealer عن أيّ واحدٍ من اللاعبين، فيُخبره ما إذا كان مُواطناً صالحاً أم مافيا، ويكونُ ذلك بإشارة، هي في العادة أن يرفع إبهامه إلى الأعلى لو كان مُواطناً صالحاً، أو أن يُشير به إلى الأسفل لو كان مافيا. ولهذا فإنّ شيخ المواطنين من أهمّ الأشخاص في اللعبة، وعليه أن يَجد طريقة ذكيّة ليُشارك معلوماته مع باقي المواطنين، لكن عليه أن يكونَ حذراً بحيثُ لا يعرف المافيا هويَّته ويبادرون لاغتياله.
* ملكة المواطنين الصالحين: (بطاقة Queen حمراءُ اللون): تستطيع اختيار واحدٍ من اللاعبين في كل دورة لتحميه من اغتيال المافيا. بطاقة الملكة جوهريّة جداً ويجبُ أن يكون صاحبها حاذقاً وأن يُفكّر جيداً في من عليه حمايته، فلا بُدّ له من أن يُخمّن مسبقاً من الهدف الذي يُريد المافيا اغتياله ليُبادر بتوفير الحماية له. لو كان صاحب بطاقة شيخ المواطنين الصالحين معروفاً، فهو عادةً الهدفُ الأولى بالحماية بالنسبة للملكة، كما يُمكن أن يختار صاحبُ بطاقة الملكة حماية نفسه لو شعر بأنّه مُهدّدٌ باغتيال.
* الولد: (بطاقة Jack حمراءُ اللون): لاعبٌ من المواطنين الصالحين، لهُ قدرة واحدة، وهي أنّه لو خرجَ من اللعبة، فعليه أن يختارَ لاعباً آخرَ ليخرجَ معه. لا تُوجد أي طريقةٍ لتفادي هذا. يُمكن لهذه البطاقة أن تُغيّر مجرى اللعبة تماماً، فإما أن يكونَ صاحبها ماهراً ويتسبَّب بخسارةٍ مُضاعفة للمافيا، أو أن يُسيء استعمالها ويسحبَ معهُ واحداً من حُلفائه.
* شيخ المافيا: (بطاقة King سوداءُ اللون): شيخ المافيا هو الذي يختارُ اللاعب الذي سيتم اغتياله في نهاية كلّ دورة لعب. يستطيع المافيا أن يُناقشوا بينهم أمر الاغتيال، فكلُّهم قادرون على اقتراح أهدافٍ للاغتيال (بإشارات الأيدي بالطّبع، كي لا ينكشفَ أمرهُم)، لكن الشيخ هو صاحب الكلمة الأخيرة. رُغم ذلك، لا تسقطُ خاصية الاغتيال بخروج شيخ المافيا من اللعبة، فهيَ موجودةٌ لديهم دائماً.

m

:خطواتُ اللعب
* في بداية اللعبة، يطلبُ المشرف من الجميع أن يغمضوا عُيونهم، ثم يفتحها أعضاءُ المافيا ليتعرّفوا على بعضهم (لا داعي للتعرّف على أصحاب البطاقات المُميّزة عندَ هذه المرحلة، لأنهم لن يستخدموها إلا بعد نهاية الدورة الأولى).
* اللعبة تتألّف من دورات، كلُّ دورة هي عبارة عن جولة اتهامات، ثُمّ جولات مُتتالية من التصويت حتى يحصلَ أحد اللاعبين على تصويتين مُتتاليَين، عندها يخرجُ من اللعبة.
* جولة الاتهامات هي فرصةٌ يحظى بها كلُّ لاعبٍ للحديث والإدلاء بتحليلاته وشكُوكه إزاء الآخرين. بعد انتهاء هذه الجولة، لا يستطيع أي لاعب أن يتحدث إلا لو تلقّى أكبر عددٍ من الأصوات.
* في جولات التصويت يُصوّت اللاعبون على الأشخاص الذين يُثيرون شكوكهم، ليسمعوا ما لديهم ليُدافعوا عن موقفهم. كلَّ مرَّة يتلقّى شخصٌ تصويتاً عليه أن يرفع أحد أصابعه ليعرف الجميعُ عدد الأصوات ضدّه. بعد كلِّ جولة تصويت، على الشخص الذي تلقّى أكبر عددٍ من الأصوات أن يُدافع عن نفسه (حتى ولو كان تلقى صوتين فقط، يكفي أن يكونَ أكبر عدد).
* لو تساوى شخصانِ في عدد الأصوات فعلى كليهما أن يُدافع عن نفسه.
* عندما يحظى لاعبٌ بأكبر عددٍ من الأصوات مرَّتين مُتتالييتين فهوَ يخرجُ تلقائياً، وعليه أن يكشفَ بطاقته أمام الجميع.
* يجبُ أن يكون التصويتان مُتتاليَين تماماً، فلو تم التصويت مرّة ضد اللاعب رقم1، ثم ضد اللاعب رقم2، ثُمَّ مرة أخرى ضد اللاعب رقم1، فذلك لا يُحتَسب، لأنّ التصويتين غير مُتتاليان.
* بمُجرّد خروجِ لاعبٍ تنتهي الدورة، وعلى الجميعِ أن يغلقوا عُيونهم ليبدأ الاغتيال والحماية، كما هُو مُوضَّح أدناه.

في نهاية كلّ دورة لعب، تُوجد خطواتٌ ثابتة يجبُ أن يتم القيام بها وعلى المُشرف على اللعبة أن يُصرّح عنها، وهي لا تتغيّر ولا يجبُ نسيان شيءٍ منها. الخطوات هي كالآتي:
* فليُغلق الجميع عيونهم، ثم فليفتحها المافيا.
* على المافيا أن يختاروا شخصاً لاغتياله (تحسمهُ إشارة شيخ المافيا).
* فليُغلق المافيا عيونهم، وليفتحها شيخ المواطنين.
* على شيخ المواطنين أن يختار شخصاً ليسأل عنه (يُعطيه المشرف إشارةً تخبره لو كان من المافيا أم لا).
* فليُغلق شيخ المواطنين عينيه، ولتفتحهما ملكة المواطنين.
* على ملكة المواطنين أن تختار شخصاً لتحميه.
* فليُغلق الجميع عيونهم، ثم فليفتحها الجميع.
* لقد تمّ اغتيال فلان (يجبُ الإعلان عن اسمه)، والاغتيال فشل/تمّت الحماية، أو نجح/لم تتمّ الحماية.
* وتبدأ جولات الاتهام والتصويت مرّة أخرى.

m-1

:نصائح استراتيجية مُهمّة عند اللعب

نصائحُ بشكلٍ عام أو للمواطنين الصالحين:
* لا تتسرّع بإخراج أول لاعب: تقرير من أول لاعبٍ تُريد إخراجه من اللعبة هو دائماً الأصعب، لأن المعلومات ورُدود الأفعال المتوفّرة لديك تكونُ قليلة جداً عندَ بداية اللعب. قبلَ السّعي لإخراج شخصٍ ما، تأكّد من أن يكونَ كلَّ اللاعبين الآخرين قد اتُّهموا مرّة واحدةً على الأقل واحتاجوا للدفاع عن أنفسهم، لتستطيع مُشاهدة ردود أفعالهم جميعاً.
* لا تُبالغ في الاتهامات: حاول أن لا تُركّز على شخصٍ واحد لأكثر من اللازم، غالباً ما يفعلُ الناس ذلك دون وجود دلائل متينة. عليك أن تتهم أكبر عددٍ من الأشخاص لتتأكد من أن تسمع وجهات نظر ورُدود أفعال الجميع قبل أن تتّخذ قراراً.
* لا تثق باتهاماتك أكثر من اللازم: صدقني، قد تكونُ مُستعداً للقسم على أنَّ الشخص الجالس أمامك عضوٌ في المافيا، لكنك سترغبُ بأن تدفنَ نفسك حياً عندما تراه يكشفُ عن بطاقته الحمراء.
* ابقَ يقظاً: يجبُ عليك أن تنتبه لتحرّكات جميع اللاعبين ولُردود أفعالهم في اللحظات الحرجة. مثلاً، عندما يخرجُ أحد من اللعب ويكشفُ عن بطاقته، احرص على مُراقبة ردود أفعال الجميع، قد ترى واحداً من المافيا يبتسمُ بسعادة لو كان صاحب البطاقة مُواطناً صالحاً. أدلِ بأكبر عددٍ ممكنٍ من التحليلات، وحاول دائماً أن تقولَ شيئاً مُفيداً عندما تُلق اتهامات.
* دافع عن نفسك بعقلانيّة: إياك أن تقول “أنا لستُ من المافيا” أو “أقسم بالله أني مواطن صالح”، عندما نلعب نحنُ نمنع الأشخاص من النّفي الصرف للتهم كقاعدة لأنه عديمُ المعنى. حاول أن تقولَ شيئاً مُفيداً، قل “ما كنتُ لأصوّت في الدورة الماضية ضد فلانٍ – الذي نعرفُ الآن أنه مافيا – لو كنتُ صديقاً له”، أو “ما كنت لأتحرك ونحن مغلقون لعيوننا لو كنتُ مافيا لأنني كنت لأخمن أنكم ستتهمونني بعدها”. بإمكانك حتى أن تلقي بعض التهديدات، فهي تجعل الناس يُفكّرون مرَّتين دائماً، مثلاً “ستندمون جميعاً عندما تشاهدونَ بطاقتي الحمراء”!
* دافع عن نفسكَ بشراسة: لو كنتَ مُستميتاً بالدفاع عن نفسك، فسيتردّد الآخرون كثيراً قبل التفكير بإخراجك. لو كنتَ تحملُ ورقة مُميّزة، مثل شيخ أو ملكة المواطنين، فأنتَ لاعبٌ مهمٌّ جداً وعليكَ أن تصرَّ على البقاء في اللّعبة. لو كثرت الاتهامات المُوجّهة نحوك، لا بأس بأن تُعلنَ للاعبين الآخرين بأنّ لديك “بطاقة مُهمّة” لتُقنعهم بالعُدول عن التصويت ضدك.
* صوّت ضدّ نفسك: يُمنَع على اللاعبين الكلامُ بعد انتهاء جولة الاتهامات وبدء جولة التصويت، لذا لو أردتَ بشدّة أن تتحدث وتُدلي بتحليلاتٍ طويلة، فيُمكنك التصويت ضدّ نفسك. أخبِر الآخرين بأنَّك تفعلُ ذلك لتحصل على فُرصة للكلام، وسيستجيبون لرغبتك في الغالب.
* يُمكنك قولُ ما تريد: لو كنت شيخ المواطنين الصالحين وسألتَ عن شخصٍ ما وعرفتَ أنه مافيا، تستطيعُ أن تقول بكلّ بساطة “أنا شيخ المواطنين وأعرف أن فلاناً مافيا، دعونا نُخرجه من اللعبة”، يمكنك أيضاً أن تطلبَ علناً من صاحب بطاقة الملكة أن يحميكَ من الاغتيال في الدورة القادمة، وسيستجيبُ لك على الأغلب. افعل ما تشاء، لكن تحمّل المخاطر، فعندما تُعلن أنك شيخ المواطنين سيرغبُ المافيا باغتيالك بأيّ ثمن.

l-2

نصائح للمافيا:
* لا تتمسّك بحُلفائك أكثر من اللازم: كقاعدةٍ عامّة، حاول أن لا تُدافع أبداً عن حُلفائك من المافيا عندما يتعرَّضون للاتهامات، فلو خرج أحدهُم من اللعبة سيدرك الجميع على الفور أنّك صديقُه. العب بذكاء، حاول أن تُوجّه الأنظار نحو شخصٍ آخر أو أن تشغل بال اللاعبين بطريقةٍ ما عن صديقك.
* لا تكُن صديقاً مُخلصاً: لو صار واضحاً أنَّ أمر أحد أصدقائك من المافيا قد انكشف، فلا تتردَّد بالتصويت ضدَّه وتجييشِ الآخرين نحوه، يُمكنك الاستفادة من ذلك لاحقاً كدليلٍ أمام المواطنين الصالحين على حُسن سلوكك.
* فكّر مثل مواطنٍ صالح: لا تلقِ الاتهامات جُزافاً، حاول أن لا تشذَّ عن الرأي العام كثيراً، لا تُبالغ باتهام شخصٍ يحوزُ على ثقة اللاعبين الآخرين. حاول أن تبحث عن هدفٍ مُريبٍ أو مُزعزعٍ لتُصوّت ضده.
* لا تفزَع كثيراً عندما يتهمكَ أحدهم: أنتَ لست مركز العالم، أنتَ مُجرّد لاعبٍ آخر يرتدي قناعاً جامداً من التعابير يُخفي كلَّ التوتر الرابض داخل قلبك. عندما يتهمك أحدٌ فذلك لا يعني أنه عرفَ بأنك مافيا. في الحقيقة، شُكوكه فيك لا تزيدُ عن 5-10% على الأرجح، لكنّه فكر باتهامك بطريقةٍ عشوائية تقريباً لأنه لم يجد شيئاً أفضلَ ليفعله. لا أحد يعلمُ شيئاً عنك. حافظ على هُدوء أعصابك ودافع بثقة، وسيأخذونَ الكثير من الوقت ليتهموك مرّة أخرى.
* فكّر جيداً قبل اغتيال شخصٍ ما: لو كنتَ من الأشرار (المافيا)، حاول أن تبتعد في الاغتيالات عن اللاعبين المَشبوهين أو الذين يتلقّون الكثير من الاتهامات، فثمّة فرصة كبيرةٌ بأن يُخرجهُم حلفاؤهم من المواطنين الصالحين دُون حاجة لتدخّلك. لو كنتَ تعتقد أنك تعرف من هو شيخ أو ملكة المواطنين الصالحين، فلا تتردَّد باغتيالهما، فهُما الأكثر خطورةً بالنسبة لك.

إطلاق مُنظَّمة ويكيميديا الشام


شعار ويكيميديا في بلاد الشام.
شعار ويكيميديا في بلاد الشام.

في نهاية الأسبوع الماضي، أعطتنا مُؤسَّسة ويكيميديا (الجهة المسؤولة عن إدارة وتمويل موقع ويكيبيديا) موافقتها على تأسيس منظمة الويكيميديِّين في بلاد الشام (Wikimedians of Levant) لتصبح واحدة من أولى المؤسسات الرسمية التي تمثل ويكيبيديا في العالم العربي، والأولى في منطقة الشام والمشرق العربي كلِّه. من المثير للاهتمام أن هذا الإنجاز لم يأتي وحده في هذه الفترة، بل هو جزءٌ من موجة لتنظيم العمل الويكيبيدي في المنطقة العربية بدأ منذ عامٍ تقريباً، وانتهى حتى الآن بتأسيس أربع منظمات لتمثيل ويكيميديا في ثلاثة بلدانٍ هي: تونس ومصر والمغرب، إضافةً إلى آخر المُنضمِّين وهي منطقة بلاد الشام ببلدانها الأربعة.

ظهرت فكرة المُنظَّمات التي تمثل ويكيبيديا إقليمياً للمرَّة الأولى في ألمانيا سنة 2004، تحتى مُسمَّى Wikimedia Deutschland أو ويكيميديا ألمانيا، ومُنذ ذلك الحين انتشرت وتزايدت حتى أصبحت تشغل أكثر من 50 دولة من دول العالم. الهدف من هذه المؤسسات (التي تسمى “فروع ويكيميديا”) أن تكون هياكل تُنظِّم الأنشطة المتعلِّقة بويكيبيديا في كل بلدٍ وتجمع الناس المُهتمِّين بفكرة موسوعة ويكيبيديا. تحظى هذه الفروع بتمويلٍ عالٍ من مؤسَّسة ويكيميديا لتساهم بنشر فكرة المعرفة والثقافة الحرة في بلدانها، وهي تقوم بنشاطاتٍ كثيرة ومتنوِّعة جداً، منها إقامة ورشات تحريريَّة جماعية لإضافة وتحسين المقالات على ويكيبيديا، أو ورشات تدريبية لتعليم الجُدد على ويكيبيديا كيفيَّة كتابة المقالات، ورحلاتٍ جماعية لالتقاط صور لمدن أو مواقع سياحية وإضافتها إلى مقالات ويكيبيديا، وأشياء عديدة أخرى، فضلاً عن أنَّها تجمُّعات تستقطب كل من يؤمن بفكرة حريَّة المعرفة ومفهوم المصدر المفتوح.

مع أنَّ فكرة فروع ويكيميديا موجودةٌ منذ 11 عاماً الآن، إلا أنَّ مجتمع الويكيبيديِّين في العالم العربي كان صغيراً ومحدوداً جداً طوال هذا الوقت ليستفيد منها. كان هُناك عدد قليل من الأشخاص المتحمِّسين للفكرة، الذين حاولوا اقتراح تأسيس فروعٍ لتمثيل ويكيبيديا في بلدانهم، لكنهم لم يتمكَّنوا من تحقيق شيء. في خلال مُعظم السنوات العشر الماضية، لم تكن هناك أي محاولةٍ جديَّة لتأسيس مثل هذه المنظمات في المنطقة إلا عام 2008، ففي ذلك العام اختيرت مدينة الإسكندرية بمصر لتكون موقع مؤتمر ويكيميانيا العالمي السنوي، وأراد بعض الويكيبيديِّين المصريِّين أن يستغلوا فرصة المؤتمر لإعلان تأسيس مُنظَّمة “ويكيميديا مصر”. مع أن الكثيرين تشجَّعوا للفكرة، إلا أن هذه المنظمة لم تظهر على الواقع قط، ومن الصَّعب معرفة السبب الآن لأن كل من كانوا يعملون عليها هجروا ويكيبيديا منذ سنواتٍ عديدة.

خريطة لبُلدان العالم التي فيها فروعٌ لتمثيل مؤسَّسة ويكيميديا. البلدان المُلوَّنة بالأزرق الفاتح لا زالت في مرحلة التخطيط والتأسيس.

لم يظهر أي اهتمامٍ جدي في مُجتمع ويكيبيديا العربية بهذه المسألة إلا قبل سنتين تقريباً، عندما بدأ يهتم عدد من الويكيبيديِّين بإقامة منظمة تجمع كل أقطار العالم العربي وتعمل في جميع البلدان العربية بآنٍ واحد. كانت الفكرة جذابة وعرضت مرات عديدة لكن تطبيقها بالحقيقة أصعبُ بكثيرٍ ممَّا قد يبدو. فقد كانت مجتمعات الويكيبيديِّين بالبلدان العربية تفتقر لأدنى مقدار من التنظيم، وعدا عن بعض الاجتماعات المحدودة التي عقدت في مصر والأردن، لم يكن هناك أي تواصلٍ واقعي يذكر بين المساهمين العرب في ويكيبيديا، ولم تكن هناك أي خبرات أو تجارب سابقة ذات قيمة بتنظيم أنشطة في العالم الحقيقي عن الموسوعة. فضلاً عن ذلك، فإنَّ إنشاء مؤسسة تُغطِّي هذا العدد من البلدان يحتاج كادراً ضخماً ومستعداً لاستثمار الكثير من الوقت بجدية والتزام، وهو ما لم يكن متوافراً لدينا بتاتاً. نُوقشت المسألة كثيراً، وكانت موضوعاً أساسياً للحوار في فرص الاجتماع القليلة التي حظي بها الويكيبيديُّون العرب خلال السنوات الماضية. لكن مع الوقت، بات واضحاً أنها لن تُطبَّق في المدى القريب على الإطلاق.

مُنذ ذلك الحين بدأت مُجتمعات الويكيبدييين المحلية في كل دولة عربية بتنظيم نفسها والعمل على إنشاء مؤسساتها الخاصة. كانت البداية بمنظمة ويكيميديا تونس في سنة 2014، والتي استغلَّت تمويلها على الفور لإقامة أول مؤتمرٍ عربي خاصٍّ بويكيبيديا وهو مؤتمر ويكي عربيَّة في مدينة المنتسير. بعد ذلك ظهرت منظمات شبيهة في مصر والمغرب. منذ شهرٍ تقريباً، بدأنا العمل على إنشاء منظمة مماثلة في الأردن، لكن رأينا أن مُجتمع الويكيبديين لدينا صغير جداً (حوالي 10 أشخاص)، من جهةٍ أخرى.. نحن على تواصلٍ عالٍ مع الويكبيديين في البُلدان المجاورة، ونظراً لتقارب بلاد الشام الجغرافي والثقافي، قرَّرنا أن نجتمع معاً في منظمة واحدة. الآن أصبح لدينا تمثيلٌ رسميٌّ لويكيبيديا في 4 بلدانٍ عربيَّة جديدة، عدا أن هذه الخطوة قد تُسهِّل تأسيس ويكيميديا العالم العربي المأمول مستقبلاً.

إن تأسيس ويكيميديا الشام ليس إنجازاً عظيماً بحدِّ ذاته، لأن إنشائها لوحده لا يقدم شيئاً جديداً، إنما الأمر المهم هو استغلالها فعلياً لتحقيق تحسُّن في العمل والنشاط الويكيبيدي ببلاد الشام. لكن كبداية، أرجو أنها ستكون خطوة نحو مستقبلٍ أفضل للمعرفة الحرَّة!

عن أسطورة الكاميرا والقُمرة


ليس دعاية لشركة كانون، لكنَّها أول نتائج غوغل!

منذ بضعة أسابيع وهناك نقاشٌ ساخن على ويكيبيديا العربيَّة حول قواعد تسمية المقالات، وكيفية التعامل مع المصطلحات التقنية أو العلمية التي تكون ترجماتها المُعتمدة (من قبل مجامع اللغة العربية) مختلفة عن ما هو متداولٌ بين الناس. أثناء إحدى المناقشات، استشهد أحدهم مثالاً بمقالة الكاميرا، وأبدى ارتياحه لأنَّ أحد المساهمين أعادها إلى عنوانها الأصلي بعد أن ظلَّ اسمها “قُمرة” لعدَّة سنوات. أرجعت لي هذه المناقشة ذكريات برنامج الشقيري (في موسم سنة 2010 على ما أعتقد؟) وزوبعة “القمرات” التي أثارها في كل أنحاء الإنترنت العربي… والتي لم نَسمع بعدها بلفظة “كاميرا” مرَّة أخرى قبل انقضاء بضعة سنوات. أعتقد أنها مناسبة جيِّدة لكتابة تدوينة عن إحدى مآسينا الأخرى!

أذكر أنَّني كنت قد قمتُ ببحث سريع حول هذه الشائعة منذ ظهورها في سنة 2010، لكنني فضَّلت إعادة التقصي الآن بتفصيل أكبر للتوثُّق. حسب برنامج الشقيري (الذي أحبُّ فكرته كثيراً بالمناسبة… لكنني لا أثق بدقته كثيراً من الناحية العلمية) فإنَّ مصطلح “كاميرا” الحديث في اللغات اللاتينية مأخوذ من الأصل العربي “قُمرة”، حيث كان العالم العربي ابن الهيثم يُجري تجاربه في قمرات . الدليل هو… أمممم… لا أحد يدري على وجه التحديد. صحيحٌ أنَّ برنامج خواطر يستضيف آدم هارت – وهو صحفي وباحث بريطاني معروف – للحديث عن “القمرات” التي كان يُجري فيها ابن الهيثم تجاربه عن الضوء، إلا أنَّ من ادعى فعلياً أنَّ أصل كلمة “Camera” هو “قُمرة” كان الشقيري نفسه ولا أحد سواه. أما من أين جاء بتلك الأسطورة العجيبة، فهذا هو الأمر الذي قد لا نعرفه أبداً!

كان ابن الهيثم عالماً عظيماً، لكن لا يبدو أنَّ له علاقة كثيراً بمصطلح “الكاميرا” الحديث.

على أيَّة حال، يبدو أنَّ تأثير برنامج الشقيري على الإنترنت هائلٌ جداً. الأمر لم يتوقَّف عند تداول هذا المصطلح على كافة مواقع التواصل الاجتماعي وظُهور ملايين النتائج له على غوغل، بل لقد وصل إلى أماكن غريبةٍ مثل مدخلة Camera في ويكاموس الإنكليزي (وهو موقع شبيه بويكيبيديا لكنَّ وظيفته أن يكون معجماً لغوياً عوضاً عن موسوعة). اللافت للنَّظر أن ادعاءات الأصل العربي للكلمة لم تظهر قط حتى إذاعة برنامج الشقيري في 2010، وبعد سنة أو اثنتين من إذاعته… نُسِيَ الأمر ودفن تقريباً، وتوقَّف المستخدمون المجهولون عن محاولة تعديل مدخلات ويكاموس.

جسناً…. من أين نبدأ؟ أعتقد أن القواميس العربيَّة القديمة نُقطة جيِّدة للبدء. فالسؤال الأول الذي تطرق إلى ذهني بصراحة كان، هل تعني كلمة “قُمرة” فعلاً – كما يقول برنامج الشقيري – “الحجرة المظلمة”؟ بحسب كتاب لسان العرب، فإنَّ معنى “القُمْرَة” هو “خُضْرَة اللون”، مثل “شيء أقمر” أي أخضر. بحثتُ على هذا الموقع المُمتاز، الذي فيه قاعدة بيانات كاملة لمحتويات خمسة معاجم عربيَّة هي: لسان العرب والصحَّاح في اللغة والقاموس المحيط والعباب الزاخر ومقاييس اللغة، ولم يذكر أحدٌ منها شيئاً عن الحجرات ولا عن الظلام. المعنى الوَحيد الذي وجدتُه هو “خضرة اللون” أو “بياضه”. لست خبيراً كثيراً باللُّغة، لكن هذا كل ما أمكنني الوُصول إليه، وليس لي إلا افتراض أن معنى الغرفة والحجرة معنى مستحدث.

على العُموم…. فلنَعُد الآن إلى ويكاموس والأصل الحقيقي لكلمة “كاميرا” الحديثة. سأذكر بدايةً أن ويكاموس – مثل ويكيبيديا – أصبح مشروعاً مكتملاً وناضجاً كثيراً، ومع أنَّه قد يحتوي أحياناً بعض الأخطاء بصورة طبيعية… إلا أنَّه في الغالب يتوخى الدقة. بحسب ويكاموس، جاءت كلمة Camera الحديثة من عبارة Camera obsucra اللاتينية… بمعنى “الحجرة المظلمة”، وقد جاءت هذه بدورها من كلمة Camera اللاتينية القديمة، والتي تعود في الأصل إلى καμάρα، التي تعني باللغة الإغريقية “الحُجرة المقنطرة” (حجرة قوسيَّة الشكل). بعد تقصي عدد من المعاجم المشهورة والموثوقة جداً، مثل قاموس أكسفورد (الذي دلَّني من قبل، للمناسبة، على الأصول العربية للعديد من المصطلحات الإنكليزية… لكن ليس هذه المرة) وقاموس كولنز وقاموس ماكميلان لم أجد إلا اتفاقاً على نفس الشيء: الكلمة أصلها لاتيني ثم إغريقي. ومن الوَاضح أن الثقافة الإغريقية (الموجودة من قبل بدء التاريخ الميلادي) وخليفتها اللاتينية سبقتا بزمنٍ طويلٍٍ جداً مولد ابن الهيثم في سنة 965م، ومن الصَّعب تخيُّل كيف تمكَّنتا من السفر إلى المستقبل لسرقة مصطلح “قُمرة” العربي العظيم منه.

بالعودة إلى بداية حكايتنا، لا زالت مقالة كاميرا على ويكيبيديا العربية تُساهم بنشر الأكذوبة نفسها أكثر وأكثر على الإنترنت العربي. هناك نقاش دائرٌ حالياً، وأرجو أنَّه سينتهي خلال أيام بإزالة هذه الأسطورة من على صفحات ويكيبيديا. من الجميل أن يعتزَّ المرء بتاريخه… لكن ذلك ليس دافعاً لنا لاختلاق الأساطير والأكاذيب (أو اتباعها دون مراجعة وتحقُّق) لمجرَّد أنها تعطينا إحساساً بالفخر بحضارتنا. وعلى كلِّ حال…. لا أعتقد أن المرحلة التي تمرُّ بها الأمة العربية الآن من تاريخها هي المرحلة التي نحتاج فيها للعودة إلى تاريخ عُمره ألف عام والتباهي به. لقد انقضت مئات السنين على آخر مرَّة كانت فيها للعرب قيمة بتقدُّم العلوم على هذا الكوكب، لذا فلستُ أظنُّ أن الفخر والإشادة بالماضي لها أي قيمة الآن، بل العمل لبناء شيء في الحاضر له فائدة حقيقية، وإنَّ الانشغال بالماضي والحُزن عليه لن يزيد الحال إلا سوءاً.

كيف أصبحت نظريَّة التطور حقيقة علميَّة؟َ


هل تحاول القول أنَّ هذا كلَّه بدأ من بكتيريا؟ الإجابة، في الواقع، هيَ نعم، وسأخبرك كيف.

استغربت عندما أدركتُ تواً أنَّني لم أدوّن قط من قبل عن إحدى أكثر المسائل العلمية حساسية وأكبرها حظاً من النقاش – على تفاهة هذا النقاش! – بين عامّة الناس على الإنترنت العربيّ: نظرية التطور. ممَّا يؤسفني فعلاً أنَّني قرأت قبل قليلٍ مقالاً من إحدى أكثر قنوات الأخبار العربيَّة شهرةً وسمعة، يكرّس نفسه بأسلوبٍ غير مهني وبتدليس علميٍّ سافرٍ لإيهام القرَّاء بأنَّ نظرية التطور نظرية مرفوضة علمياً، وأنَّها الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة في المجتمع العلميّ. لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة بلحقيقة، ففي الكثير من المرَّات التي تحدُّثتُ فيها إلى أحدهم عن نظرية التطور، كنتُ أراه متفاجئاً بأنَّه لا زال هناك “علماءٌ يتحدثون عن النظرية”، فقد نجح المتؤوّلون على العلم في عالمنا العربي فعلاً بإقناع الناس بترَّهات عن “دحض” هذه النظرية في المُجتمع العلميّ، والتي باتت، في الواقع، مسلَّمة عند الأطفال الصغار في نصف دول العالم.

إن مقدار الكذب والتدليس الذي تمارسه الصِّحافة العربية في هذا المجال غير عاديّ، فهي قادرة على عكس الحقائق عكساً تاماً عجيباً لا تدري كيف يحدث وكيف يُسوَّغ، وتجد أنَّ المبرُّر لهذا التدليس المخيف هو التمسُّك بمناهج فكرية تقليديَّة يُدَّعى بأنَّ لها علاقة بالدين وأنها لأجل حماية الإسلام، بينما السَّبب الوحيد للاستماتة بالدّفاع عنها أنَّنا نرفض الاعتراف بخطئنا وتقبُّل العلم الحقيقيّ على حاله. عندما حصلتُ على أول فرصةٍ لي لأطَّلع على مراجع علميَّة أجنبيَّة مُحايدة قبل بضع سنوات، كنت أيضاً معتقداً أنَّ شريحة كبيرة على أقلّ تقديرٍ من العلماء يرفضون نظريَّة التطور الآن، وكانت فكرتي عن النظرية شديدة السطحيَّة، فكنتُ أنا نفسي ممَّن كرسوا نفسهم لمعارضتها والحثِّ على تفنيدها. لكن… بمرور الوقت، وبالاطلاع على المزيد من المصادر ومشاهدة المزيد من الوثائقيات، كلُّ ما كنتُ أراه هو علماء أحياءٍ في كلُّ مكانٍ يتحدثون عن التطور ويقفزون من فوقه بكلُّ بساطة وكأنَّهم وضعوه في مقام الحقيقة البديهية، التي لا تتطلَّب أدنى قدرٍ من المناقشة. في نهاية المطاف، بدأتُ أدرك أنَّه لم يعد هناك أصلاً أشخاصٌ يتعبون أنفسهم الآن بالطعن في النظرية، فقد أصبح التطور – في كلِّ بقعةٍ من العالم تقريباً إلا بلداننا العربيَّة وقلائل غيرها – جزءاً من الحقائق الأساسية المثبتة عن العالم، مثله تماماً مثل حقيقة كرويَّة الأرض ودورانها حول الشمس.

رسم بيانيٌّ جميل، يوضّح مقدار التناسب بين مستوى الدخل في كل بلد (وهو ما يرتبط أيضاً بمستوى التعليم والثقافة إلى حدٍّ كبير) ومعدّل الإيمان بنظرية التطور. تتَّسم معظم دول العالم الأول بمعدلات فوق 60%، بينما في أعلى الدول عالمياً – وهي إيرلندا – يؤمن نحو 90% من السكان بالنظرية. ثمَّة دولة وحيدة تشذُّ بشكل واضح إحصائياً عن القاعدة هُنا، هي الولايات المتحدة.

إذا ما أخذتَ بضع دقائق لتطّلع على هذا المقال الثريّ من ويكيبيديا عن الجدليَّة الدائرة حول نظرية التطور (وصدّقني أنه يسوى ألفاً من أيّ مقالٍ تافهٍ قد تصادفه على الإنترنت العربي، مهما كان اسم كاتبه برَّاقاً ومعروفاً في الأوساط العربية)، ستكتشف بقراءة السطور الأولى من هذا المقال حقيقة موثَّقة إحصائياً، هي أنَّ نحو 95% من العُلماء والأكاديميِّين أصبحوا يُسلِّمون الآن بنظريَّة التطور. في الحقيقة، لم يمرَّ عليَّ أثناء قراءاتي في السنين الماضية شخص غير مقتنعٍ بالنظريَّة طوال السنوات الماضية إلا من أوساط المسلمين، ويا ليت أحداً من هؤلاء كان من العلماء أو يفقه شيئاً في العلم ليعطينا رأياً صحيحاً عن هذه النظرية مبنياً على أساس علم البيولوجيا… لا على أهوائه الشخصيَّة عديمة القيمة.

سأوضّح لك في هذا المقال لماذا أجمع كلُّ علماء الأحياء في العالم على صحَّة التطور… لذا أرجو أن تقرأه بعناية وتركيز، وأن تحاول فتح عقلك ولو مبدئياً لإمكانية أن تكون هذه النظرية صحيحة. أرجو من كلِّ قلبي أن تحاول وزن الأفكار المطروحة أمامك بعقلك ومنطقك، لا بناءً على تصوُّراتك المسبقة التي وضعت في عقلك دون مبرّر منذ زمن، إذا قمتَ بذلك… فإنني سأقدّر تماماً رغبتك بالاقتناع من عدمه.

تشارلز دارون:

كانت زيارة دارون إلى جزء الغالاباغوس في شبابه (وهي جزرٌ منعزلة تتميَّز بالعديد من الحيوانات الاستثنائية، وأشهرها السلاحف العملاقة)، أحد أبرز الإلهامات التي أوحت له بنظرية التطور.

لا بُدَّ أنَّك سمعتَ كثيراً جداً باسم تشارلز دارون، فهو أشهر من نارٍ على علم. لعلَّك سمعتَ الناس غالباً يسخرون منه، يصفونه بالقرد أو شيءٍ كذلك، ويتخذون قصَّته مهزلةً يضحكون عليها. لكن، هل فكَّرت يوماً بأن تتوقَّف وتتساءل فعلاً… من يكون دارون؟ دعني أخبرك أنَّك للأسف، لا تعلم شيئاً عن دارون. دعني أيضاً أكن صريحاً بعض الشيء ومنصفاً في الآن ذاته، لأقول أنَّ كل من يسخر من دارون ويستهزئ به بهذا الأسلوب – الرَّائج جداً في بلادنا العربيَّة – هو إنسانٌ تافه جداً، لمُجرَّد لأنه سمح لنفسه بالتحدث بهذه الطريقة عن إنسانٍ قدَّم خدماتٍ جليلةً للعلم.

قبل كلِّ شيء… دعني أوضّح لك حقيقة يتجاهلها الكثير من المسلمين الذين يتحدثون عن التطور، أو يحاولون – عن علمٍ أو جهل – إغفالك عنها أو إيهامك عكسها الكليّ، وهي أن دارون كان عالماً. لقد كان تشارلز دارون مُنذ شبابه عالم طبيعة وأحياءٍ متفانياً، لقد كان رجلاً مثقَّفاً ومتعلِّماً واتَّبع منهجيَّة أكاديميَّة صارمةً في جميع أبحاثه وأعماله، وعلى رأسها نظرية التطور. كانت جميع طروحات دارون علميَّة بحتة، ومتركزةً على أدلَّة حسية جمعها بجهد كبير ليبني عليها استناجاته وفرضياته، وإنَّ إسهاماته في علم الأحياء كثيرة ومتنوّعة، فقد وصف العديد من أنواع الكائنات الحية وجمع عيّناتها وصنَّفها، في زمنٍ كانت معرفة الناس فيه عن الكائنات الحية بالمناطق النائية من العالم ضئيلةً جداً. لذلك أرجو أن تكنَّ الاحترام لهذا الرجل، فهو – سواءٌ أخطأ أم لا، وهو غالباً لم يخطئ – كان رجلاً مخلص النية عمل بأمانةٍ علميَّة وترك وراءه تراثاً أكاديمياً عظيماً، لم يترك ذرَّة منه مُعظم الذين يحاولون الاستهزاء بنظرياته.

على العموم، فكرة التطور في أصلها لم تبدأ بدارون، إنَّما كان هو محض مرحلةٍ من مراحل تطوُّرها، وكان الرجل الذي وضع مفهوم آلية عمل التطوُّر الذي يتفق عليه العلماء اليوم. تاريخياً، بدأت فكرة التطور في أشكالها الأولى بالظهور منذ عصر النَّهضة، حيث بدأ العلماء بمحاولة إيجاد تفسيراتٍ علميَّة لكيفيَّة نشوء الكون والحياة، لكن لم تكن هناك أفكارٌ واضحة كثيراً، بل مجرَّد افتراضات تقول بأنَّه من لا بد من وجود آلية علميَّة نشأت الحياة وفقاً لها، عوضاً عن أنها ظهرت من العدم. في مطلع القرن التاسع عشر، طُرِحَت للمرَّة الأولى فكرة التطور بشكلها الحديث، لكنَّ المفهوم وآلية العمل الدقيقة لم يكونا واضحين كثيراً، فقد طرحت النظرية بالبداية على أساس أنَّ التطور ناتجٌ عن صدفٍ عديدةٍ متلاحقة وأنواعٍ من الطفرات العشوائية في الكائنات الحية، لتجعلها تتغيَّر بالتدريج في شكلها وخواصِّها. هذه الفكرة البدائية التي طرحت في الأيام الأولى للنظرية، هي التي لا زال يحاول العديد من أعداء النظرية بين العرب أن يسوُّقوها على أنها التطور.

تشارلز دارون… الأب الروحي لنظريَّة التطور… والعدو اللدود للكثير من محاربي النظريَّة!

مع الوقت، بدأت أفكارٌ جديدةٌ وأكثر دقَّة بالظهور، مثل فكرة التكيُّف، وهي أنَّ أجساد الكائنات الحية تتكيَّف تدريجياً وتتغيَّر لتصبح أكثر انجساماً مع بيئتها، ومن ثمَّ ترث ذريَّتها هذا التغير، وعلى المدى الطويل، يبدأ النوع كلُّه بالتحول إلى نوعٍ مختلفٍ قليلاً، تعرف هذه الفكرة الآن باسم اللاماركية. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، بدأ علم الأحافير بالتطور، وبدأ العلماء يستخرجون مستحاثات الكائنات القديمة كالديناصورات وغيرها بكميَّات ضخمة، ومع مرور الوقت، بدأت تتضِّح صورة تاريخ الحياة على الأرض: كيف بدأ كل شيءٍ بالبكتيريا، ثم ظهرت اللافقاريات، وبعدها الأسماك إلخ…. وهنا بدأ يلتفت نظر علماء الأحياء إلى أنَّ الحياة على الأرض لم تنشأ بعشوائيَّة أبداً: لقد انتقلت الأنواع الحيَّة انتقالاً بطيئاً جداً من شكلٍ لآخر، وكانت تحتاج دائماً مدَّة طويلة كثيراً للتطور إلى أيّ شكلٍ جديد ومختلفٍ بدرجةٍ عالية عن أشكالها السابقة. كان لانكشاف سجل الأحافير دورٌ بارز جداً في بدء تفكير العلماء بمسألة التطور، ومن بينهم الشاب تشارلز دارون.

في منتصف القرن التاسع عشر، نشر كتابٌ يطرح نظريَّة جديدة هي الأولى من نوعها لتفسير آلية التطور، كانت حتى وقتها الفكرة الأكثر نضجاً واكتمالاً حول كيف يمكن أن تحدث عمليَّة التطور بالضبط: كان الكتاب هو  أصل الأنواع. تأثر مؤلف الكتاب – دارون – كثيراً بأفكار من سبقوه من العلماء، خصوصاً النظريات المطروحة عن أسلوب تكيُّف الأنواع مع بيئتها للانسجام مع المحيط الذي تعيش فيه، والتنافس الشديد القائم بين الأنواع الحيَّة للبقاء، وأخيراً خرج بفكرته الأساسية: الانتقاء الطبيعيّ. تقوم فكرة هذه النظرية – كما قد يوحي اسمها – على أنَّ الطبيعة تنتقي الأنواع الحية الناجحة لتبقى، وتترك الأنواع الفاشلة لتنقرض. فمثلاً، إن كان هناك أسدٌ سليم معافى… وأسدٌ مريضٌ مصاب بمرض داء المثقبيات، فمن الطبيعيّ أن قدرة الأول على البقاء ستكون أعلى، لأنَّ مرض الآخر سيجعله ضعيفاً خائر القوى، ومن ثم سيعوقه عن الصيد وسيجعله يخسر أمام منافسيه في قيادة مجموعته من الأسود، لذلك سرعان ما سيموت، وسيساعد موته أكثر على بقاء الأسد الأول، لأنَّ منافسيه على الغذاء والتكاثر سيقلُّون. بهذا الأسلوب، لا تسمح الطبيعة إلا ببقاء الحيوانات والأنواع المستعدَّة للتكيُّف مع بيئتها بأسلوبٍ مناسب، أما إن فشل نوعٌ في هذا التكيف، فإنَّ الطبيعة ستقضي عليه وتقصيه من نزاع الحياة. لذلك نجد كل الحيوانات من حولنا مجهَّزة جداً للتعايش مع بيئتها، مخالب الأسود وأنيابها القويَّة وسرعة الفهد الهائلة بالعدو مثلاً هي تكيُّفات ساعدت هذه الحيوانات على البقاء بأن توفّر لها الصيد وبالتالي الغذاء الذي تحتاجه لتعيش.

لماذا نظريَّة التطور لا تواجه ثغراتٍ مميتة، وليست فيها مشكلة مع الدين كذلك؟

ليست محض مزحة سمجة، بل هناك الكثيرون ممَّن لا زالوا يؤمنون بأن الأرض مسطحة، وأيضاً الكثير ممَّن لا يؤمنون بالتطور..

بالطَّبع… كل نظريَّة لها مشاكلها، عليك أن تُدركَ أنه لا توجد تقريباً نظرية في العالم “مرضيٌّ عنها”. الحس النقدي هو جزءٌ طبيعي جداً من المنهج العلمي، ومن الطبيعي أنه عند ظهور أي نظرية جديدة، فسيكون هناك من سيؤيِّدها ومن سينقضها، وهذا جزءٌ جيُّد ومفيد لكي تتقدَّم العلوم بالأسلوب المناسب، إن كنتَ حريصاً جداً على تصيُّد من ينقض النظريات العلميَّة الثابتة والمجمع عليها، فيمكنكَ حتى أن تجد من ألَّف كتباً كاملةً لينقض حقيقة كرويَّة الأرض، ويدّعي أن الأرض مسطَّحة، لكن بطبيعة الحال فهذا رأي تافه لا يُلقَى له بال، فكم تعتقد أن من علماء وفيزيائيِّي عصرنا هذا لا زالوا يؤمنون أنَّ الأرض مسطحة؟ ليس رقماً يُذكَر بالتأكيد، فهذه الحقيقة الواضحة كان يعرفها حتى الفلكيون العرب والإغريق القدماء قبل ألفي سنة. هناك أيضاً من يريد تصيُّد آراءٍ معارضة للتطور، وهو بالتأكيد سيجد من يدعمه، لكنهم سيكونون دائماً علماءً قليلي القيمة والشأن وغير معروفين البتة، تماماً مثل أولئك الذين لا زالوا يدعون أن الأرض المسطحة. إن كنتَ تريد أن تكون منصفاً ومحايداً في بحثك، ابحث عن قوائم بعلماء الأحياء والطبيعة المشاهير، ثم اقرأ عن رأيهم واحداً واحداً بالتطور، ووقتها ستتضّح لك نظرة العلماء الحقيقية حيال هذه النظرية، عوضاً عن النظرة الساذجة التي يحاول الكثير من العرب تسويقها.

من الضروريّ أيضاً إيضاح أن نظرية التطور، مثلها مثل العديد من النظريات، لها ثغراتها (التي لستُ بصدد تعدادها واحدةً واحدة، فهناك الكثير من المسلمين الذين عملوا على ذلك بالفعل لحسن الحظ)، وإلا لما كنَّا أسميناها “نظرية”. مثلاً… لا زالت نظرية التطور، رُغم أنَّ هذا ليس من اختصاصها تحديداً ولكنَّه مرتبطٌ بفكرة النشأة العفويَّة للحياة، عاجزةً عن تقديم تفسير واضح لكيفية نشوء الخلية الحيَّة الأولى، هذه معضلة يعرفها جميع علماء الأحياء، ولست أخجل من الإقرار بها أو أهتم بإخفائها. الثغرات في النظريات العلمية هي جزءٌ طبيعي من تقدُّم العلم، نظرية النسبية لآينشتاين وميكانيكا الكم لماكس بلانك، اللَّتين بنيت عليهما نصف تكنولوجيا عالمنا الحديث، كلا هاتين النظريَّتين مليئتان بالثغرات، ولذلك باتت أكبر معضلةٍ في علم الفيزياء منذ قرنٍ كامل هي إيجاد بديلٍ لهما، يتمكَّن من سدّ ثغراتهما. مع ذلك، كانت نظرية آينشتاين هي الدليل الذي استعمله العلماء لصنع المفاعلات النوويَّة، وكان من المستحيل ظهور الطاقة النوويَّة بدون نظرية النسبية. السبب ببساطة بنجاح نظرية آينشتاين والسبب الذي يجعل التطور أيضاً نظرية ناجحةً رغم مشاكلها، هو أنَّه عند وجود ثغرات في نظرية علميَّة فإنَّ ذلك لا يعني بالضرورة أنها باطلة، بل أنها لا زالت ناقصة وفي طور التحسُّن والتغيُّر، وهي عمليَّة يُساعد على إتمامها كل المُجتمع العلمي. صحيحٌ أن نظرية التطور فيها ثغرات كثيرة، لكن وكما سترى في الفقرات التالية، فإنَّ لها دلائل وإثباتاتٍ كثيرة أيضاً، كما أنها حتى يومنا هذا التفسير المنطقي الوحيد الذي يوضّح لنا علمياً كيف يمكن أن تنشأ الحياة، لذلك فإن نظرية التطور لا زالت في مرحلة البناء والدراسة، ولا زالت فيها نقاط ضعف، لكنَّها بالإجمال… نظرية علميَّة واضحة ومثبتة، ويؤمن بها كلُّ علماء كوكبنا الآن تقريباً.

image-of-the-helix-nebula
إذا كانت نظرية الانفجار العظيم، التي تشرح كيفيَّة ولادة الكون، تُعتبر دليلاً على خلق الله بسبب توافقها مع آية: “أو لم يرَ الذين كفروا أنَّ السماء والأرض كانتا رتقاً ففتقانهما”، لماذا إذاً لا يُمكن اعتبار التطور مُجرَّد دليلٍ آخر على الخلق، كطريقة اختارها الله، لحكمة أو لأخرى، لبدء الحياة على الأرض؟

طبعاً… قد يبدو لك أنَّه من الأسهل بكثيرٍ من الخوض في هذه النقاشات الطويلة، أن نُلخِّص الأمر بكل بساطة: الله خلق الحيوانات! لكن، لماذا قد يكون هذا التلخيص مفيداً بأيّ شكل؟ ممَّا لا شكَّ فيه أنه من الأسهل تفسير كل ظواهر الطبيعة بهذا الأسلوب: الرياح تهبُّ من الجبال إلى السهول لأن الله يريد ذلك، والأقلام تسقط عندما نفلتها باتجاه الأرض لأنها مشيئة الله. لكن هذا ليس مفيداً على الإطلاق من وجهة نظرٍ علميَّة. يمكنك أن ترى أنَّ القوانين الفيزيائية التي لاحظناها في كوننا تجعل فهمنا للعالم أفضل بكثير، فعندما قمنا بحساباتٍ لسرعة سقوط القلم نحو الأرض، واكتشفنا تناسبها مع كتلة القلم وكتلة الأرض والمسافة بينهما، أدركنا أن هناك قواعد ثابتةً تُسيِّر الأشياء، فالكون لا يعمل بعشوائية. إذا كان الله قرَّر إيجاد قواعد ثابتةً تعمل وفقاً لها الجاذبية والمغناطيسية ومختلف الظواهر الفيزيائية، لماذا إذاً لا يكون بكلُّ بساطةٍ قد قرَّر أيضاً إيجاد التطوُّر؟ في وقتنا الحاليّ، نعرف جميعاً أن الكون ولد بعمليَّة نسمّيها الانفجار العظيم، المسلمون والمسيحيون والملحدون على حدّ سواء، يؤمنون جميعهم بهذه النظرية، التي تعطينا تفسيراً علمياً كاملاً لكيف خلق الكون. لماذا إذاً لا يمكن تفسير نشأة الحياة علمياً بنفس الأسلوب؟ ولماذا يجب أن يكون هناك تعارضٌ بين التطور والدين؟ ما المُشكلة في أن تكون الحياة نشأت عَرَضاً في الكون الذي خلقه الله؟

كيف حدث التطوُّر؟

لكي تفهم لماذا التطور هو حقيقة علمية مثبتة، ليس عليك أن تذهب إلى موقعٍ أخباري عربي أو جريدة محلية أو حتى كتابٍ لهارون يحيى وتسمعَ منه عن نظرية التطوُّر، لأنَّ هذه مراجع غير أكاديمية وغير مهنيَّة، ولا يمكن أن تعطيك إلا فكر ساذجة عن نظرية كبيرة ومعقَّدة. ما تقدّمه لك هذه الكتب والجرائد لا يختلف، في الحقيقة، عمَّا تعطيك إيَّاه وسيلة إعلامٍ غربية عندما تلخّص الأمَّة العربيَّة بتاريخها وحضارتها وواقعها بأنها “أمة من راكبي الجمال”، لا أعتقد أنَّك ستحبُّ ذلك الوصف بالتأكيد، فهو وصفٌ تافه لا ينقل شيئاً على الإطلاق من 4,000 عامٍ من تاريخ العرب الثري وثقافتهم وحضارتهم الفريدة. يفعل كتابنا الفذُّون الشيء ذاته تماماً، عندما يلخُّصون عملية التطور المعقَّدة بأنها مثلاً: “كائناتٌ تضجر من اليابسة فتقرر اختراع أجنحةٍ لتستطيع الطيران”. إذا كنتَ قد سمعتَ أوصافاً من هذا النوع طيلة حياتك، فمن الطبيعيّ أنك لن تؤمن بهذه النظريَّة التافهة التي توصف بهذا الشكل، لكن الأمر مختلفٌ كثيراً.

قبل كلُّ شيء، عليك أن تفهم جيداً أن التطور عمليَّة بطيئة…. بطيئة جداً. مجرَّد حدوث اختلافٍ صغير… كظهور نوعٍ أصغر حجماً من الذئاب، أو نوعٍ من النمور لديه أنيابٌ مختلفة الشكل عن أنياب النمور الأخرى، مجرَّد حدوث هذا التغير التافه هو عمليَّة قد تستغرق مليون عامٍ من الزَّمن. هل تعرف ما هي المليون العام؟ المليون عام تعادل 100 ضعف كلُّ التاريخ المسجَّل للجنس البشري على هذا الكوكب. سيستغرق الأمر مئات آلاف الأجيال من أحفادك وأحفادهم وأحفاد أحفادهم حتى يحدث أيُّ تغييرٍ من هذا النوع… أؤكّد لك أنَّه ليس بالأمر السَّهل أبداً.

المسار التطوري الذي يعتقد أن سلالة الأحصنة سلكته، بدءاً من حيواناتٍ صغيرة بحجم السناجب عاشت قبل 50 مليون عام، وحتى الأحصنة الحديثة التي نراها الآن. الأسماء العلميَّة لجميع الحيوانات واردةٌ إن كنتَ مهتماً بمراجعتها.

لتستوعب الأمر أكثر، دعنا نتحدَّث قليلاً عن تاريخ تطوُّر الحياة على الأرض. لقد ظهرت أولى الخلايا البدائيَّة على كوكبنا قبل 3,600 مليون سنة (3.6 مليار سنة)، أي بعد ولادة الأرض بمليار عام تقريباً. منذ ذلك الحين… عاشت هذه الكائنات وحيدة الخليَّة لثلاثة آلاف مليون سنة وحيدةً تماماً على الكرة الأرضية، لم يرافقها خلالها أيُّ شكلٍ آخر من أشكال الحياة على الإطلاق. وأخيراً… قبل 600 مليون سنة فقط (في آخر 18% من تاريخ الحياة على الأرض) ظهرت أولى الكائنات المعقَّدة… أولى الكائنات الحية الأكثر تطوُّراً من البكتيريا. ظهرت الأسماك، من جهةٍ أخرى، في آخر 14% من تاريخ الحياة، أما الزواحف (بما فيها الديناصورات) فظهرت في آخر 8% منه، ولم تأتي الثدييات والطيور إلا في آخر 5%، بينما جئنا نحن البشر، على أحسن تقدير، خلال آخر 0.07% من تاريخ الحياة كلّه.

يمكن لنظرةٍ سريعة على خطّ تطور الحياة أدناه أن تعطيك فكرةً عن الأمر. بالحقيقة، هناك أمرٌ آخر ستلاحظه عندما تنظر إلى هذه الصورة، وهو حقيقة أنَّ تطوَّر الحياة سلك مساراً خطياً تدريجياً جداً، ولم تحدث فيه أيُّ قفزات مفاجئة تُذكَر طوال 3,600 مليون سنةٍ من تاريخ الحياة على الأرض. فأولاً… ترى أن كل شيءٍ بدأ من البكتيريا، بكتيريا بدائيَّة جداً سكنت الأرض وعمرَّتها وحيدةً، دون أيِّ شكلٍ آخر من الحيوانات إلى جانبها، استمرَّت الحال هكذا لـ82% من تاريخ الحياة الأرضية. ثمَّ وبمرور الوقت… بدأت تظهر الحيوانات الأكثر تعقيداً، وكانت كلُّها تعيش في البحر، وظلَّت الحياة على الأرض مقتصرةً بالبحار لأكثر من 90% من كل الأزمنة التي وجدت فيها حياةٌ على كوكبنا. أما انتقال الحياة إلى الجوّ فقد أخذ 200 مليون سنةٍ أخرى، حيث أنَّ الطيران كان يحتاج تكيُّفاتٍ معقَّدة أخذ ظهورها وقتاً طويلاً. وأخيراً بدأت تظهر مجموعة الثدييات (بعد أن انقرضت العديد من أشكال الحيوانات الأخرى بما فيها الديناصورات، قبل 65 مليون سنة)، وتسارع تطوُّر الثدييات، وكان من بين أحدثها ظهوراً الرئيسيات العليا والإنسان. وإن لم يكن البشر آخر من تطور من الحيوانات على الإطلاق، فالتطور عمليَّة دائمةٌ لا تتوقَّف، ونحن على ما يبدو لسنا إلا جزءاً منها.

4047dc2f08c422a43c6430815243ead6_L
هكذا تطوَّرت الحياة على الأرض. بدءاً من البكتيريا، وصُعةداً إلى اللافقاريات والحشرات، ثُمَّ الأسماك والزواحف التي تبعتها الديناصورات، والتي انقرضت بفعل اصطدام كويكبٍ ضخمٍ بالأرض، لتظهر من بعدها الثديِّيات، وآخرها الإنسان.

الكثير من قليلي الخبرة يصوُّرون التطور بأسلوبٍ ساذجٍ جداً على أنَّه “رغبة ذاتية” من الكائن بالتغيُّر… لكنَّ الأمور لا تسير بهذه الطريقة. الأمر لا يسير بناءً على ما ترغب به، بل بناءً على ما تحتاجه، فهي عمليَّة شبه آليَّة خارجةٌ عن إدراك الكائن الحي، تماماً مثلما أنَّك لا تتحكَّم بالهضم الذي يحدث في أمعائك أو بالإفرازات التي يخرجها جسمك. لستَ أنت من تقرُّر كيف تريد أن تتطوَّر، بل جسدك البشري وقدرته على التكيف مع بيئته. يمكن ضرب مثالٍ واضحٍ جداً من عالمنا الحديث، ففي سنة 2003، ضربت أوروبا موجة حرّ لم تشهد القارَّة مثيلاً لها منذ العصور الوسطى، وكانت الحصيلة هي وفاة 70,000 شخص (يمكنك مراجعة الرَّقم على ويكيبيديا للتأكُّد). بلغت موجة الحر القاتلة هذه حوالي 40 درجة مئوية، وهو شيءٌ تعيشه الكثير من دول العالم العربيّ في كل صيف مُنذ زمنٍ بعيد، لكنَّنا لم نسمع يوماً بوفاة مثل هذا العدد المخيف من الناس نتيجة احترار الجو. السَّبب بكل بساطةٍ هو أنَّ أجساد سكان الشرق الأوسط معتادةٌ على الحرّ ومتكيِّفة معه، تماماً على عكس الأوروبيّين، الذين اعتادوا المناخ البارد، ممَّا يجعل قدرتهم على تحمُّل الحرارة منخفضةً جداً. لهذا السَّبب، فإن أدَّى الآن الاحتباس الحراري العالمي إلى ارتفاع حرارة أوروبا بشكلٍ دائم، فإنَّ جميع سكانها سيكونون مُجبَرين على التكيُّف مع المناخ الجديد كما تكيف العرب بمرور الزَّمن مع مناخ الصحراء الحار، أو أن يموتوا ويختفوا، وهذه هي بالتحديد العمليَّة التي نسمّيها الانتقاء الطبيعي، فإن لم يكن الكائن الحيّ قادراً على التعايش مع ظروف بيئته، فإنَّه بكلُّ بساطة سيختفي. هذه العمليَّة هي التي تصنعُ، مع مرور الزمن، تكيُّفاتٍ استثنائية وغريبة جداً في بعض الكائنات الحية لتستطيع الانسجام مع بيئتها (كسنام الجمل مثلاً)، تكيُّفات من النَّوع الذي يعتبره البعض – لسببٍ ما – دليلاً على عدم صحَّة التطور.

توزيع البشر الأرض على الأرض بحسب لون بشرتهم، يعبّر اللون الأصفر عن البشرة البيضاء والبني عن السوداء. ألا تلاحظ التناسب المدهش بين الظروف المناخية ولون البشرة؟ السَّبب هو أنَّ لون البشرة في الإنسان يتكيَّف مع كميَّة الأشعة فوق البنفسجية التي يتلقَّاها جسمك.

إن أردتَ توضيحاً صارخاً لكيفيَّة تكيُّف البشر مع بيئتهم، ألقي فقط نظرةً على ألوان بشرة الناس، وستجد تناسباً صادماً بين لون البشرة ومتوسّط درجة الحرارة في كلُّ بلدٍ من بلدان العالم، بحيث أنَّه يصعب أن يكون صدفة*. تأمَّل للحظاتٍ فقط، كل المناطق الشمالية الباردة، بما فيها أوروبا وروسيا والشرق الأقصى في اليابان والصين – حيث البيئة جبليَّة ومرتفعة – تجد الناس بيض البشرة تماماً، حتى في العالم العربي، سكان المناطق المرتفعة والجبليَّة كبلاد الشام بيض البشرة بصورةٍ عامة، لكن ما إن تبدأ بالنزول قليلاً إلى الأماكن الأكثر سخونة، كأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (مناخ استوائي) والهند والبلاد العربيَّة (مناخ مداري) ستجد أن الجميع أصبحوا سمر البشرة. ثمَّ وبالنزول إلى أفريقيا وأدنى أمريكا اللاتينية… ستصبح ألوان البشرة سوداء فاحمة. تغيُّرات لون البشرة هذه هي جزءٌ من عملية تكيُّف للتحكم بامتصاص الأشعة فوق البنفسجية، وكمية إنتاج فيتامين د الضروريّ لجسم الإنسان، يمكن لمقالة ويكيبيديا الممتازة أن تعطيك تفاصيل كثيرةً عن الموضوع. تأثَّرت هذه الظواهر قليلاً باختلاط البشر وعوامل الوراثة، فالكثير مثلاً من سكان أمريكا اللاتينية الآن بيض البشرة لأنَّ لهم أصولاً إسبانية، والإسبان ذوو بشرةٍ بيضاء، لكن بشكلٍ عام، لا زلتَ تجد سكان معظم الأقاليم الجغرافية على الأرض محافظين بدرجةٍ كبيرة على هيئتهم الأصلية.

توزيع الكائنات الحية:

تطوَّرت هذه الحيوانات الغريبة على قارَّة أستراليا أثناء انعزالها الجغرافي الطويل عن باقي القارات، القائم منذ أكثر من 170 مليون عام. لذلك السَّبب، لم تحصل الكناغر على الفرصة للانتقال إلى قارات أخرى، وبالتالي فهي لا تعيش الآن إلا في أستراليا. لو كان قُدِّر لأستراليا أن تتَّصل بآسيا… لعلَّك كنتَ سترى الكناغر تعدو في سهول جزيرة العرب!

هل توقَّفت يوماً وفكَّرت بالطريقة التي تتوزَّع فيها الحيوانات على الأرض؟ إنَّها ليست عشوائية، فلا وجود للعشوائية أو الصُّدف بمكان. فكِّر مثلاً بأستراليا، لا بُدَّ أنك سمعتَ قليلاً عن حيوانات أستراليا، فهي قارة مشهورةٌ بأنَّها تعجُّ بأنواعٍ كثيرةٍ من الحيوانات الغريبة والمدهشة، مثل الكنغر والكوالا والشيطان التسماني والكثير غيرها، كلُّها حيواناتٌ فريدة جداً في الشكل والنوع، لم نرى أيَّ مثيلٍ لها في بقعةٍ أخرى على الأرض. لكن لماذا لا يوجد مثيل لها في أيّ مكانٍ آخر؟ انظر مثلاً إلى النمور والأسود، مع أنَّها انقرضت الآن – والفضل يعود للبشر – بالكثير من أنحاء العالم، لكنَّها كانت تنتشر قبل ألفٍ أو ألفي سنةٍ فقط في كل أنحاء العالم القديم بقارَّاته الثلاثة، من السهول المتجمّدة في روسيا إلى أدغال الهند وصحارى الجزيرة العربيَّة وجبال أوروبا وبراري أفريقيا… كلُّ هذه الأقاليم الجغرافية شديدة التنوُّع، كانت فيها أسود ونمور وذئاب وحيواناتٌ كثيرة أخرى. منطقياً، لا بُدَّ أن هناك سبباً يسمح بوجود النمور والأسود في كلُّ هذه الأقاليم، بينما فشلت الكناغر والكوالا بالتواجد في أيّ بقعةٍ خارج حدود أستراليا الضيّقة.

كما ترى… كانت النمور في الماضي تعيش بأنحاءٍ مختلفة ومتنوّعة جداً من العالم القديم، بينما لا تجد أياً منها في الأمريكيتين أو أستراليا أو الجزر الاستوائية البعيدة… وذلك لأنَّها تطورت في وقتٍ متأخر، لم تكن هناك فيه جسور جغرافية بين العالمين القديم والجديد. تشبه هذه الخريطة كثيراً خرائط توزيع الأسود والفهود.

السبب بسيطٌ جداً…. ومنطقّي جداً، ولا أعتقد أن منطقيَّته تحتاج إلى الكثير من المناقشة. كانت أستراليا في الماضي السَّحيق متّحدة مع كل القارات الأخرى تقريباً بكتلةٍ عملاقة من اليابسة تدعى قارَّة بانجيا، ثم انقسمت القارة العظيمة إلى شطرين، فذهبت أستراليا مع الشّطر الجنوبيّ المعروف باسم غوندوانا، لكن وقبل نحو 180 مليون سنةٍ من الآن (في منتصف “عصر الديناصورات” كما يمكن أن نسمّيه تسهيلاً) انفصلت أستراليا عن جميع القارّات الأخرى، ومنذ ذلك الحين ولنحو مئتي مليون سنة وأستراليا تهيم وحدها، منعزلةً تماماً بحاجزٍ بحريٍّ عرضه آلاف الكيلومترات عن أيَّة قارة أخرى. بطبيعة الحال، كان من المستحيل على أيّ كائناتٍ حيَّة عُبور هذا الحاجز، سواء للقدوم إلى أستراليا أو الخروج منها. كانت النتيجة الطبيعية هي أنَّ الحيوانات قضت مئتي مليون عامٍ وهي تتطوَّر في أستراليا بأسلوبٍ مختلفٍ تماماً عن تطوُّرها في أيَّة قارَّة أخرى، فظهرت حيوانات فريدة وغريبة خاصَّة بهذه القارة، ولم تستطع هذه “المنتجات الأسترالية” أن تُصدًّر إلى القارات الأخرى، كما لم تستطع أستراليا استيراد الحيوانات الفريدة من القارات الأخرى، لذلك، وبشكلٍ طبيعيّ ومنطقيّ جداً، لا يمكنك أن ترى أيَّة نمور أو أسود الآن في أستراليا، كما لا يمكنك بالتأكيد رؤية أي كناغر أو كوالا في شبه الجزيرة العربيَّة.

في كل أنحاء الكرة الأرضية.. لا يعيش حيوان الليمور إلا على هذه الجزيرة المنعزلة قبالة سواحل أفريقيا.

يمكنك إن كنتَ مهتماً بالتفاصيل، أن تفتح على ويكيبيديا مقالة أيّ حيوانٍ عشوائي (الليامير مثالاً) وتقرأ فقرة التاريخ التطوريّ أو Evolutionary History وستجد تفسيراً كاملاً مفصَّلاً للمسيرة التطورية التي خاضها هذا الحيوان، منذ انفصل عن أسلافه وحتى وصل شكله وتوزيعه الحاليَّين. في حالة حيوانات الليمور مثلاً، ستجد بإلقاء نظرةٍ خاطفة جداً على الخريطة المجاورة أن هذه الكائنات الغريبة – على كثرة أنواعها التي تتجاوز المائة نوعٍ مختلف – لا توجد في الكرة الأرضية بأكملها إلا بمكانٍ واحد، هو جزيرة مدغشقر، وذلك بطبيعة الحال لأنَّ هذه الجزيرة معزولةٌ تماماً عن العالم منذ 70 مليون سنة، كانت طوالها مفصولةً عن الساحل الأفريقيّ بمسافة 500 كيلومتر.

تطوَّرت طيور الدودو ونشأت للمرَّة الأولى على جزيرة منعزلةٍ في المحيط الهندي تدعى موريشيوس، لأنَّ هذه الجزيرة مُحَاطةٌ بحواجز مائية من كل الجهات، لم تحصل هذه الطيور على أيّ فرصةٍ للانتقال إلى أماكن أخرى. لذا بمجرّد أن استقدم الأوروبيون الحيوانات المفترسة إلى الجزيرة، اختفت هذه الطيور من على وجه كوكبنا إلى الأبد.

كنتيجةٍ طبيعيَّة لظاهرة في الكائنات الحية، يمكننا الآن أن نفهم أن أيَّ حيوانٍ يترك وحيداً في إقليمٍ جغرافيّ منعزلٍ لفترةٍ من الزَّمن سيبدأ بالتغير والتحول إلى كائنٍ جديد، ومع مرور الوقت، سيزيد اختلافه عن أسلافه القدامى، لأنَّ أسلافه يتطورون بطريقتهم… وهو يتطور بطريقته الخاصة، وكلما مضى الوقت ستزداد الفجوة بينهم. دعنى أعطي مثالاً أخيراً بالجزر الاستوائية النائية، فالجزر الاستوائية تعجُّ دوماً بأنواعٍ فريدة وغريبة جداً من الكائنات الحيَّة لا تجدها في أيّ مكانٍ آخر، لأن بعض هذه الجزر – وليس كلُّها – كانت منعزلةً عن العالم انعزالاً تاماً لملايين السِّنين. لا بُدَّ وأنَّك سمعتَ يوماً بقصَّة طائر الدودو، وهي إحدى أشهر قصص الانقراض في العصر الحديث، فقد عاشت هذه الطيور البدينة التي لا تستطيع الطيران بسلامٍ في جزيرة موريشيوس قبالة السواحل الأفريقية  لملايين السِّنين، وبطبيعة الحال ولعدم وجود أي مفترسين طبيعيّين لها في موطنها، فقد فقدت قدرتها على الطيران، وهو تكيُّف كثيراً ما نراه في الطبيعة (لا تستطيع غزلان أفريقيا العدو بسرعة 50 كيلومتراً في الساعة بمحض صدفةٍ عجيبة، إنَّما هو تكيُّف مع البيئة التي تعيش فيها هذه الغزلان المملوءة بالحيوانات المفترسة من أسودٍ وفهودٍ وغيرها، لو عاشت الغزلان على جزيرة استوائية، لكانت فقد قدرتها على العدو السَّريع تدريجياً!). لكن، عندما وصل الهولنديون إلى الجزيرة “لاستكشافها” في سنة 1598، قدموا معهم بكلابٍ مفترسةٍ وقرودٍ وقططٍ كانت قادرة على قتل هذه الطيور بكلُّ سهولة. شوهد آخر طائر دودو على قيد الحياة في سنة 1662، منذ ذلك الحين، اختفت هذه الطيور من على وجه كوكبنا للأبد، لأنَّ بيئتها تعرَّضت لتغيرات حادةً لم تمتلك الوقت لتتكيَّف معها وتتطوَّر وفقاً لها.

أمثلة حيَّة على التطور:

الكلاب مع أسلافها!

من الحجج التافهة ضد التطور التي قد تعتاد سماعها: “آتوني بأحفورةٍ واحدة تظهر الانتقال من السمكة إلى العصفور!”، إنَّ هذه الحجة غريبةٌ قليلاً لأنَّ هناك بالفعل آلاف الأحافير التي تظهر تدرُّجاتٍ عالية جداً بانتقال الكائنات الحية من شكلٍ لآخر، الماموث مثلاً هو شكلٌ بدائي من أشكال الفيل، أو لماذا باعتقادك يشبه هذا الحيوانان بعضهما لهذه الدرجة؟ ليست صدفة بالتأكيد. على أيَّة حال وبما أنَّ الحصول على أحفورة كائنٍ قديم يتطلَّب اجتماع ظواهر وعوامل استثنائية كثيرة متتالية لتكوُّن الأحفورة، كما أنَّ معظم الأحافير تُدمَّر عند مرحلةٍ ما نتيجة ظواهر التغير الجيولوجي كالحتّ والبراكين والزلازل وغيرها… لذا فمن الطبيعيّ أن هناك أجزاءً عديدةً من تاريخ الحياة على الأرض فقدت للأبد، وهناك أجزاء كثيرة أخرى لن نعثر عليها حتى مضيّ وقتٍ طويل وبصعوبة كبيرة. لهذه الأسباب لن تجد أبداً سجلاً أحفورياً يظهر تاريخ كائنٍ حي بكلّ مراحله الدقيقة، لكنك ستجد بالتأكيد ما يكفي لتشكيل فكرةٍ عامة عن تطور الحياة، وإن الخط الزمني للحياة على الأرض لدليلٌ كافٍ!

مع ذلك، سيكون من الأكثر إقناعاً بالتأكيد أن نرى أمثلةً حيَّة على كيف يمكن للكائن الحيّ أن يتغيَّر، عوضاً من أن نبحث عن مستحاثات كائنات عاشت منذ ملايين السِّنين. لنضرب مثالاً بالكلاب! هناك حقيقة مثيرة للاهتمام قبل الحديث عن الكلاب، يؤمن بها الآن معظم علماء الأحياء، وهي أنَّ الكلاب بالأصل محض سلالة من الذئاب، لكن بعد أن روَّضها البشر واستئنسوها قبل عشرات آلاف السنين، بدأت تدريجياً بفقدان تكيفاتها التي اكتسبتها للعيش بالطبيعة، فحاجة الكلاب للاعتماد على نفسها في الصَّيد مثلاً أصبحت أقل، لأن البشر دوماً في جانبها لمساعدتها، بل وفي عصرنا الحديث أصبحوا هم يتولُّون إطعامها وتغذيتها بالكامل تقريباً، ولذلك أصبحت فكوكها ومخالبها أضعف، لأنها لم تعد ضروريَّة كثيراً. قد تبدو نظريَّة غريبة، لكنَّها بالواقع باتت مثبتةٌ بدراسات الحمض النوويّ.

82a5f3de-961b-4dab-8bc9-e226f63a5d8d_560_420
ظهرت جميع هذه الأنواع والسُّلالات تقريباً خلال القرون الأخيرة، على أيدي البشر وتجاربهم في التهجين.

بدأ البشر منذ 30 ألف سنةٍ بتهجين الكلاب وخلط سلالاتها معاً لإبراز الصفات التي يرغبون بها، ولتعديل مظهر هذه الكلاب أو خواصِّها بحيث تناسب ما يريدون. جميع أنواع الكلاب التي تراها اليوم تقريباً، بكلُّ أشكالها الغريبة والعجيبة المتعدّدة، هي نتاج هذا التهجين الذي قام به البشر، أو الانتقاء الصناعيّ كما يُسمَّى علمياً… والقليل جداً من أنواع الكلاب التي توجد على كوكبنا الآن ظهرت قبل عصر النهضة، أو حتى قبل القرنين الأخيرَين. تجربة الإنسان مع الكلاب هي مثالٌ حيٌّ على إمكانية تعديل الكائنات الحية وصناعة سلالاتٍ جديدةٍ منها علمياً، وإن تجارب التهجين هذه لهي إثباتٌ بالحقيقة على أنَّ سلالات الكائنات الحية لا تظهر من العدم، بل يمكنها أن تنشأ وتتغيَّر بوسائل أخرى، كالانتقاء الطبيعي (التطور العادي) أو الانتقاء الصناعي (على أيدي البشر).

لكن ولأنَّ فهمنا لتركيب أجساد الكائنات الحية شديدة التعقيد ولخواصّ علم الوراثة لا زال محدوداً، لذا فإنَّ الانتقاء الصناعي الذي نقوم به يخرج دائماً بنتائج رديئة، لا يمكن مقارنتها بالانتقاء الطبيعي. لقد تمكَّن الناس من صنع سلالاتٍ جديدة كثيرة من الكلاب توافق الأشكال التي يريدونها، والتي يعتبرونها جميلة أو تلاقي قبولاً أكبر من بين مشتري الحيوانات الأليفة، لكن ولأنَّ التهجين والانتقاء الصناعي اللَّذين قاموا بهما لم يحصلا بشكلٍ مدروسٍ كفاية… فقد كانت لهذه التعديلات تداعيات كارثية على صحَّة الكلاب. في الطبيعة، عندما تنشأ سلالة من الحيوانات فيها ضعفٌ معيَّن أو نقصٌ ما، فإنها سرعان ما ستختفي، لأن الطبيعة ستفرضها (انتقاءٌ طبيعيّ)، وستصبح ضحيَّة سهلةً لأعدائها المفترسين أو منافسيها الطبيعيّين على البيئة والغذاء. لكن، بالنسبة للكلاب التي هجَّنها البشر، فقد قاموا هم بأنفسهم على رعايتها وتغذيتها والاعتناء بها، بحيث أنَّها تمكنت من البقاء، رغم أنها لن تعيش إلا أياماً قليلةً في البرية.

What-Is-a-Wiener-Dog
صَنَعَ البشر هذه السُّلالة من الكلاب بالتهجين والانتقاء الصناعيّ، لكن وبسبب شكلها الطويل غير الطبيعيّ، فهي تُعاني من مساكل مزمنةٍ في عمودها فقريّ.

على سبيل المثال، تعاني سلالة كلاب البلودهاوند (وهي سلالة مهجَّنة تمتاز بأجفانٍ مترهّلة يعجب مظهرها بعض مقتني الكلاب) من التهاباتٍ وأمراضٍ مزمنة بالعينين، بسبب الشكل غير الطبيعي لأجفانها الناتج عن الانتقاء الصناعي. أما الكلاب الدالماتية، التي اعتقد مهجُّونها الأوائل أنَّها حمقاء لقلَّة استجابتها، فإنَّ 30% منها تولد صمَّاء. من جهةٍ أخرى، تعاني كلاب الداشهند – والتي يحبُّ أصحابها شكلها الطويل الغريب – بسبب طولها وحجمها غير الطبيعيَّن من مشاكل مزمنةٍ في العمود الفقري، ولذلك فإنَّ الحركة الكثيرة والقفز والوقوع قد تهدُّد بانكسار الأعمدة الفقرية لهذه الحيوانات، وتصاب ربعها تقريباً بأمراضٍ في الحبل الشوكي. أما سلالة التشيهواهوا، فإنَّها تصاب بسبب تقزُّمها غير العادي (وهي أصغر سلالات الكلاب في العالم) من مشاكل عديدةٍ في القلب والمفاصل. يمكنك أن ترى أمثلةً أخرى متعدّدة في مقالة رائعة لمبادرة الباحثين السوريّين عن هذا الموضوع.

خاتمة:

مع أنَّ هذه التجارب مجملها فاشلةٌ ونتجت عنها العديد من النتائج غير المحمودة، إلا أنَّها تثبت أنَّه بقدرٍ معيَّن من العلم، فإنَّ صنع سلالات جديدةٍ من الكائنات الحيَّة أمرٌ ممكن. ميزة هذه التجارب أنَّها سرَّعت عملية الانتقاء الطبيعي الأصليَّة، بحيث أثبتت لنا – لو بأسلوبٍ أقلَّ إتقاناً – أنَّ هذه الآلية يمكن أن تعمل بالفعل، وأنها بالحقيقة قادرةٌ فعلاً على صنع كائنات جديدة. فإذا كانت بضع مئات من السنين من تهجين البشر للكلاب كافيةً لصنع كلُّ أنواع الكلاب هذه، فليس من الغريب إذاً أن تكفي 500 مليون سنة لتطوُّر كل هذه الأنواع الفريدة والمدهشة من الكائنات الحيَّة على كوكبنا.

في نهاية الأمر… فإنَّه لا يوجد بديلٌ علميٌّ إلى يومنا هذا قادرٌ على أن يحلَّ محل نظريَّة التطور لتفسير نشأة الحياة، وبما أنَّ العلم قائمٌ على الإتيان بالنظريات المضادَّة والمكمِّلة لا النقض البحت، فإنَّه من الطبيعي أن تظل النظرية – مع أدلّتها الكثيرة – قائمةً شئنا أم أبينا، حتى مجيء ما يمكن أن يكمِّل نقصها أو يحلَّ محلَّها بشكلٍ أفضل بناءً على منهجيَّة علميَّة. على الأقلّ، إن كنَّا نحنُ – معشر العرب – مهتمّين جداً بالاستمرار بهوسنا في التنظير على التطوُّر وطرح أدلتنا المخضرمة التي تثبت فشله، فأقترح أن نعمل أولاً على الوصول إلى مرحلةٍ يمكننا أن نبني فيها علومنا ونظرياتنا الفيزيائية والكيميائية الخاصَّة التي يمكنها أن تنافس علوم الغرب، قبل أن نتباهى بتجاهلنا لنظرية آمن بها كلُّ علماء هذا الكوكب.

_______________

* الصدفة: ستجدني أتحدَّث في هذا المقال وأذكر عدَّة مرَّات عدم حدوث الصدف كحجَّة مع التطور. مع أنَّ معظم من يحاربون التطور يحاولون تصوير النظرية على أنَّها قائمةٌ على فكرة الصدفة والصدف، إلا أنَّ ذلك بالحقيقة غير صحيح بتاتاً. جوهر فكرة التطور، القائم على تفسير كيف تتحول الكائناتٌ الحيَّة من شكلٍ إلى آخر بأسلوبٍ طبيعي، مبني على أسسٍ علميَّة ومنهجية موضحة في هذا المقال، كالانتقاء الطبيعي والتكيف، وبالتالي فهو لا يعتمد على الصدفة بل على قواعد ثابتة. كما ترى.. جميع الأمثلة الحيَّة المذكورة في المقال تدعم ذلك، حيث أنَّ توزيع الكائنات الحية الجغرافي وتكيُّفها البيولوجي لا يتبعان الصدفة، بل يتبعان المبادئ العلمية لنظرية التطور.

عامٌ جديدٌ من ويكيمانيا!


مدينة لندن… مضيفة ويكيمانيا 2014!

لم أدرك عندما حفظتُ تعديلي الأول في ويكيبيديا العربيَّة بليلة مملَّة من ليالي الصيف قبل خمس سنوات، أنَّ هوايتي الجديدة هذه كانت ستغير حياتي تماماً. للوهلة الأولى، بدت فكرة «الموسوعة التي يمكن للجميع تحريرها» فكرة سخيفةً جداً، فلم أكن لأتوقَّع أن ينتج عن مثل هذه الفكرة إلا موقع تافه آخر مليءٌ بالقمامة والترهات التي تملئ المنتديات العربية، ولم أعد التفكير برأيي هذا في ويكيبيديا إلا بعد أن بهرتُ بالكمّ الهائل من المحتوى المعرفي المتوافر عليها. إلا أن الأمر لم يستغرق طويلاً بعد أن بدأت تجارب التعديل الأولى على صفحات ويكيبيديا حتى أدركت أنني قد عثرت على كنز حقيقي يجب أن تكون البشرية ممتنَّة جداً لحصولها على شيء مثله. رغم ذلك… لم أتوقع قطّ، أن عثوري على هذا الكنز قد يجرُّني آلاف الكيلومترات بعيداً عن بلدي، إلى مدينة مدهشة بحقّ لم أكن لأحلم بزيارتها، والأفضل من ذلك… لأقابل أشخاصاً عظيمين يعملون ليلاً ونهاراً بلا تعبٍ لنشر المعرفة دون أيّ مقابل.

كل سنة، يجتمع ما يربو على 700 ويكيبيدي – يقلُّون أو يزيدون – من جميع أنحاء العالم في مكانٍ واحد، ليناقشوا معاً سبل متابعة تطوير أكبر صرحٍ معرفي في تاريخ الإنسانية. يُدعَى هذا الحدث الرائع مؤتمر ويكيمانيا. حتى الآن، عقد مؤتمر ويكيمانيا لعشر مرَّاتٍ بدءاً من عام 2005، في مدنٍ من بينها فرانكفورت والإسكندرية وحيفا… وهذه السنة لندن! وقع الاختيار على مدينة لندن لتكون مضيفة الحدث الويكيبيديّ قبل عامٍ تقريباً، بعد منافسة حادَّة خاضتها مع مدينة أروشا تنزانيا لاستضافة المؤتمر. وأما المكان الذي اختير لإقامة ويكيمانيا فهو مجمَّع الباربيكان الشهير بمنطقة مدينة لندن القديمة، وهو عبارة عن مركز عملاق للفنون يُعنَى بالدرجة الأولى باستضافة المناسبات الثقافية الفنية، كالحفلات الموسيقية والعروض المسرحية ومعارض الفن، وهو يضمُّ كل شيء يمكن لك أن تريده… من مطاعم ومقاهٍ ومحلات ترفيهٍ وسينما وصالات لاستضافة كل أنواع المناسبات الثقافية والاجتماعية.

الهاكاثون:

زاوية من الهاكاثون بعد الافتتاح بوقتٍ قصير.

يتألَّف المؤتمر الرئيسي من ثلاثة أيام، تشتمل محاضراتٍ وجلسات مناقشةٍ وورشات عمل وتدريب عديدة، تتخصَّص كلها بشيءٍ واحد: ويكيبيديا. مع ذلك، جرت العادة على أن يسبق افتتاح المؤتمر يومان من حدثٍ مثير يُسمَّى الـHackathon : وهو دمجٌ لكلمتي Hack (وهو تعبيرٌ شائع عن صنع وتطوير البرامج التقنية الحاسوبية)، وAthon (وهي كلمة إنكليزية تعني إقامة حدثٍ جماعي). إذا حدث وأن دخلتَ ويكيمانيا أثناء إقامة الهاكاثون، سترى أمامك مشهداً غريباً: عوضاً عن ما قد تتوقَّعه عندما تسمع كلمة مؤتمر، ما ستراه أمامك هو عشرات الطاولات بكلّ مكان… يجلس على كلٍّ منها دزينة من مهووسي التقنية، وقد وضع كلٌّ أمامه حاسوباً وانهمك بعمله الخاصّ، كأنَّه لا يشعر بوجود أي شخصٍ حوله. كلُّ تواصلٍ بشري يحدث خلال هذين اليومين سيكون متعلّقاً بالبايثون أو الميدياويكي أو مختبر ويكيميديا.

لم يكن هناك شيءٌ مميَّز كثيراً حيال الهاكاثون هذا العام: أناسٌ في كلِّ مكانٍ يعملون. كانت الأنشطة العامة التي تقام خلال يومي الحدث التقني أقلَّ حتى ممَّا جرت العادة، فلم تكن هناك تقريباً أيَّة محاضرات، وانعدمت الورش، وبالكاد بضع لقاءاتٍ عامَّة. كان كلُّ ما يحدث هو الجلوس على الطاولات والدردشة والعمل والعمل والعمل…. بمجرَّد أن تكون لك بعض الخبرة في الويكي والبرمجة، فإنَّ هذا المكان سيكون أشبه بجنة على الأرض!

انشغل صديقي أسامة بإجراء بحثٍ مثير عن تأثير المساهمة في ويكيبيديا على مهارات المحررين الإملائية: هل تصبح الأخطاء الإملائية أقل تكراراً في مساهمات الويكيبيديين عندما يقضون وقتاً طويلاً على ويكيبيديا؟ نرجو طبعاً أن تكون الإجابة هي نعم! (يمكنك قراءة التفاصيل في مدوّنته). بالنسبة لي.. فللأسف لستُ من أكثر الناس مهارةً فيما يتعلق بالبرمجة، لذلك لجأتُ إلى مجموعات العمل الصغيرة التي تنشط في مهامّ أخرى. فقد تعرَّفت خلال المؤتمر على ويكيبيديَّين، أحدهما سويدي والآخر كندي (اسماهما كارل وجيمس) يعملان في مشروعٍ لترجمة المقالات الطبية وتطويرها بأكبر عددٍ ممكن من لغات ويكيبيديا.

جانبٌ من ملتقى المجتمع (Community village)، حيث تعرض فروع ويكيميديا بمختلف البلدان أنشطتها وأعمالها.

ما يقومان به بالدرجة الأولى هو إرسال المقالات الطبية المهمَّة إلى متطوعين متخصِّصين من مؤسَّسة Translators without Borders، فيقوم هؤلاء المتطوعون بترجمتها إلى لغاتهم الأم، ومن ثم نأخذ نحن هذه الترجمات ونعيد صياغتها وتنسيقها بأسلوب الويكي المناسب، ونضيفها إلى مقالات ويكيبيديا. كان كارل وجيمس يقومان بنفسيهما في السَّابق بتنسيق هذه الترجمات وإضافتها إلى ويكيبيديا بلغاتٍ كثيرة بينها العربية، إلا أنَّ عدم معرفتهما باللغة العربية جعل المهمة صعبة ومتطلِّبة للكثير من الوقت بالنسبة لهما، وهنا جاءا للعثور على مساعدة من الويكيبيديين العرب في ويكيمانيا. لم يكن هناك ما يكفي من الوقت لإنجاز الكثير، حيث إن المشروع ضخمٌ جداً، إلا أنَّنا قضينا بضع ساعات أنجزنا خلالها مقالاً طويلاً عن انفصام الشخصية، كما ساعدناهما بتصنيف وتوثيق حالة العديد من المقالات الطبية في ويكيبيديا العربيَّة.

امتاز مؤتمر هذا العام بوجود معلمٍ فريدٍ جميل جداً: الـCommunity village، أو كما يمكن ترجمة الاسم «ملتقى المجتمع» . مع أنَّ أشياءً مشابهة لهذا وجدت في السنوات الماضية، إلا أنَّها كانت تقام بصورةٍ محدودة ليوم أو يومين، أما هذه السنة، فقد تحول ملتقى المجتمع إلى موطنٍ حقيقي للويكيبيديين! هذا الشيء هو عبارةٌ عن معرض يقام في منتصف ساحة المؤتمر يتضمَّن جناحاً صغيراً خاصاً بكلِّ دولة من دول العالم، يمكن أن تعرض في هذه الأجنحة الإنجازات والمشاريع التي حقَّقها الويكيبيديون في كل بلدٍ من هذه البلاد خلال العام، أو من الممكن أن توزَّع على حضور ويكيميانيا عشرات الأغراض التي يزيِّنها شعار ويكيبيديا الجميل (من الأقلام والدبابيس إلى المعاطف الشتويَّة!)، أو من الممكن عقد اللقاءات والاجتماعات والتعارف والمناقشة بين الويكيبيديين من مختلف أنحاء العالم. إذا شعرتَ بالملل في أيّ وقتٍ من أنشطة المؤتمر، ما عليكَ إلا التوجُّه إلى هنا!

امتاز ملتقى المجتمع هذه السَّنة بوجود مقعدٍ عربي فيه للمرَّة الأولى، كانت صاحبته هي تونس. فمن المعتاد أن لا تشارك بهذا الحدث إلا الدول التي توجد بها منظَّمات ويكيبيديَّة لتمثّلها، ولم تكن هناك منظمات من هذا النوع في أية دولة عربية حتى نهاية مايو الماضي، عندما تأسست أخيراً «مجموعة مستخدمي ويكيميديا تونس» لتقدّم أول تمثيلٍ رسمي للعرب في ويكيبيديا. وعلى ما يبدو أنَّ الأمر لن يتوقف هنا، فهناك منظمات شبيهة قادمة قريباً على الأرجح في مصر والأردن وبعض الدول العربيَّة الأخرى. طوال المؤتمر، كان جناح تونس هذا هو ملجأ العرب ومكاناً لتجمُّعهم خلال الاستراحة من أنشطة ويكيمانيا.

المؤتمر يبدأ!

الصالة تمتلئ.

كانت قد جرت العادة على افتتاح المؤتمر في صباح اليوم الثالث (أي اليوم الأول من أيام المؤتمر الأساسي)، لكن ولسببٍ ما فقد تقرَّر عوضاً عن ذلك إقامة الافتتاح مساء اليوم الثاني من الهاكاثون هذا العام. امتلأت القاعة العملاقة – التي تَتّسع لقرابة 2,000 شخص! – بمئات الويكيبيديّين المتحمّسين، فما إن صعدَ مدير المؤتمر «إدوارد سابيرا» إلى الخشبة حتى ضجَّ المكان كله بتصفيق حار لا يتوقَّف، وطوال الدقائق الخمس الأولى من كلمته، لم يكن يكاد ينطق بجملةٍ حتى تبدأ موجات التصفيق من جديد. ألقى مدير المؤتمر بترحيبٍ عامٍّ للحضور بأسلوبٍ رسميّ، ثم تلاه «جون ديفز» مدير فرع مؤسسة ويكيميديا في بريطانيا، والذي تحدَّث بإسهابٍ أكثر وبشكل أقل رسميَّة ومتعة، ليحدّثنا عن بعض التفاصيل والصُّعوبات المثيرة للاهتمام التي واجهت تنظيم المؤتمر، وكمّ التحديات المخيف الذي اضطرَّ الفريق المنظِّم لمواجهته في سبيل إيصال المؤتمر بهذه الصُّورة (علماً بأن المنظمين هم جميعاً ودون استثناءٍ من المتطوعين). فعلى سبيل المثال، أخبرنا جون ديفز عن كميَّة المناقشات والقرارات التي كانوا بحاجةٍ لاتخاذها حيال مسألة تافهة جداً كالقمصان التي يرتديها المتطوعون في المؤتمر، والتي طبع عليها شعار ويكيمانيا: فأولاً، كم يجب أن يكون عدد هذه القمصان؟ ثم ماذا يجب أن يكون لونها؟ أيضاً… من أيّ بلد وشركة يجب أن يشتروها؟ وما هي المقاسات التي عليهم توفيرها؟ وما نوع المادَّة التي يجب أن يصنعوها منها؟ كان عليهم الإجابة على هذه الأسئلة كلِّها فقط لتصفية مسألة ثانوية وبسيطة جداً كالقمصان!

كان الدور الثالث في سلسلةٍ المحاضرين لمؤسِّس ويكيبيديا الشهير،  «جيمي ويلز». كانت التقاليد الويكيبيديَّة العتيقة لمؤتمر ويكيمانيا تفرض أن يتضمَّن خطاب الافتتاح لجيمي ويلز كلمته الشهيرة State of the Wiki (التي يتحدث فيها بإيجازٍ عن أهم التطورات الأخيرة الطارئة على ويكيبيديا والتقدُّم الذي حققته الموسوعة بلغاتها المختلفة)، لكن – لسببٍ أو لآخر – تأجَّلت هذه الكلمة إلى ختام المؤتمر، وعوضاً عن ذلك، اكتفى بإلقاء خطابٍ افتتاحي آخر غلبت عليه الرسمية، إلا أنَّه تضمَّن أيضاً بعض النقاط المهمَّة عن القيود القانونية التي بدأت تفرض على حرية المعرفة عموماً وعلى ويكيبيديا خصوصاً في الكثير من بلدان العالم.

ليلى تريكتوف – المديرة التنفيذية الجديدة لمؤسَّسة ويكيميديا – تتحدث للمرَّة الأولى إلى مجتمع ويكيبيديا.

كان من أهمّ أحداث افتتاح ويكيمانيا هذا العام هو تقديم مديرتنا التنفيذية الجديدة، «ليلى تريكتوف»، فمنذ استقالة جيمي ويلز عن منصب المدير التنفيذي بعد سنواتٍ قليلة من تأسيسه لويكيميديا، أصبحت الكندية سو غاردنر المديرة التنفيذية للمؤسسة، وتمكَّنت من إدارة المؤسسة بكفائة ممتازةٍ لأكثر من ست سنوات، حتى أعلنت عن استقالتها المؤسفة في شهر مارس من العام الماضي. منذ ذلك الحين ومؤسسة ويكيميديا تعمل بجهدٍ مضنٍ للعثور على شخصية جديدةٍ يمكنها شغل هذا المنصب الحسَّاس لحركة ويكيميديا بأسرها، وقد وقع أعلنَ رسمياً أخيراً قبل ثلاثة شهورٍ فحسب عن خليفة سو أخيراً: ليلى، خبيرة روسية في عالم البرمجيات الحاسوبية، وقد عملت لنحو خمسة عشر عاماً في هذا المجال، قبل أن تنضمَّ الآن إلى مؤسسة ويكيميديا.

للأسف ومع أنَّ لدى ليلى خبرةً واسعةً في عالم التقنية والبرمجيات وكذلك المعرفة الحرَّة، إلا أنَّها ليست على تلك المهارة فيما يتعلَّق بإلقاء الخطابات. لكنني لستُ ألومها كثيراً، فبطبيعة الحال لم يكن سياق الكلمة التي طُلِبَ منها إلقاؤها يحتمل إلا قول كلامٍ خطابي قليل الفائدة لحشو برنامج المؤتمر باسم المديرة التنفيذية الجديدة اللامع. استمرَّت كلمتها لنحو نصف ساعة، ركَّزت حديثها خلالها عن النجاح العظيم الذي حقَّقته ويكيبيديا أول انطلاقتها، والذي جعلها تنتهي بين أكثر خمس مواقع مشاهدةً على مستوى العالم، وكيف يمكن لنا أن نحافظ على هذا النجاح ونستمرَّ فيه، وكيف يمكننا أن نجد آليات جديدة وأفكاراً جديدة لجعل الموسوعة تلاحق تطور التقنية. بطبيعة الحال… كانت الكلمة مملوءة بما يمكن أن يشغل تفكير مديرة تنفيذية جديدة!

أخيراً، جاءت الكلمة الخامسة لضيف الشَّرف «ساليل شيتّي»، الأمين العام لمنظمة العدل الدولية المتمركزة ببريطانيا. مع أنَّ خطابه لم يكن عن الويكي تحديداً، إلا أنَّه كان متعلّقاً بالأساس بالدّفاع عن الحريات… حتى لو لم تكن حريات المعرفة التي نعمل بها عادةً في ويكيبيديا. تحدَّث ساليل عن التحديات التي تواجهها حقوق الإنسان في العديد من بلدان العالم بهذه اللحظة التي نقف فيها بقاعة المؤتمر ببريطانيا، ذكر العديد من الأماكن… من بينها غزَّة والجزائر ونيجيريا وجمهورية أفريقيا الوسطى.

Open street map:

شعار OpenStreetMap

كان أحد المساقات الرئيسية الأولى لليوم الثاني هو مشروع «Open street map» (أو كما تُتَرجم خريطة الشارع المفتوحة)، وهو عملٌ رائع يجمع بين اثنين من اهتمامتي الكبيرة: الويكي والخرائط. هذا المشروع هو عبارةٌ عن قاعدة بيانات جغرافية للكرة الأرضية، تشبه كثيراً برنامج Google maps، لكن الفرق أنَّها مفتوحة المصدر… وقد صنعها بالكامل – ولا زال يصنعها – متطوعون عاديُّون! كان هذا اليوم يوماً مناسباً جداً للحديث عن المشروع من حيث الزمان والمكان، حيث أنَّ التاريخ – العاشر من أغسطس – يوافق ذكرى ميلاد Open street map للمرَّة الأولى قبل عشر سنواتٍ من الآن، بينما كنا نجلس في مدينة لندن، وهي المكان الذي ولد فيه المشروع أيضاً بذلك التاريخ.

تضمَّن الجدول محاضرتين رئيسيَّتين، كانت الأولى مقدّمة عامة عن المشروع وتاريخه لمن لا يعرفه، حيث كان أول من أطلق قاعدة البيانات هو رائد الأعمال «ستيف كوست»، بهدف تغطية بلده (المملكة المتحدة) بخرائط مجانية مفتوحة المصدر على الإنترنت. لكن سرعان ما بدأ المشروع بالتطوُّر والتوسُّع، ليستقطب آلاف المتطوعين من مختلف أنحاء العالم، وبدأ بالحصول على دعمٍ من جهات كبرى، حيث أعلنت شركة ياهو رسمياً سماحها لمتطوعي أوبن ستريت ماب باستعمال صورها الجوية كأساسٍ لتُبنَى عليه الخرائط مفتوحة المصدر. كما ذكر المحاضر بعض المسائل القانونيَّة التي واجهت المشروع، حيث أنَّه عند إطلاقه في أول الأمر كانوا قد قرَّروا ترخيص محتوياته برخصة كريتف كومنز (CC BY-SA)، وهو ذات الترخيص المستعمل حالياً لمقالات ويكيبيديا، حيث يتيح استعمال المادة وتعديلها وإعادة نشرها بحرية تامَّة وبأية طريقةٍ كانت بشرطٍ وحيد فقط: هو ذكر المؤلف الأصلي للمادة. لكن فيما بعد وجد القائمون على المشروع أنَّ أوبن ستريت ماب بالحقيقة مختلفٌ عن الموسوعة بدرجةٍ كبيرة… حيث أنَّه أقرب إلى قاعدة بيانات، وبالتالي يحتاج إلى ترخيصٍ مناسب أكثر لحالته هذه، فتقرَّر في عام 2012 تغيير الترخيص إلى ODbL المخصَّص لقواعد البيانات الحرَّة.

كانت المحاضرة التالية محاضرةً عمليَّة جداً، حيث ركَّزت على إعطاء شرحٍ تفصيلي لآلية عمل برنامج أوبن ستريت ماب، والكيفية التي يساهم فيها المتطوعون ببناء خرائطه وبياناته، وهي نقطةٌ لطالما كنت مهتماً بالتعرُّف عليها: كيف أمكن لمتطوعين أن يعدُّوا هذه الخرائط شديدة الدقَّة؟ ما يفعله المتطوعون هو أنَّهم يأخذون معهم ببساطةٍ أيّ جهاز فيه نظام GPS (يمكن لأي هاتف ذكي الآن أن يقوم بهذا الغرض) ثم يستعملونه لجمع البيانات والإحداثيات عن الموقع الذي يريدون صنع خريطةٍ له، حيث يجب أن تكون متواجداً في الموقع المطلوب إن أردتَ صنع خريطة له. وبعد ذلك… ستكون هذه البيانات كافية وحدها لتشكيل خريطة أوَّلية جيدة جداً، ومن ثمَّ فإن كل ما عليكَ فعله هو تعديل الخريطة ببرنامجٍ خاص لإضافة أي تفاصيل جغرافية مفقودة، ثم يمكنك إضافة الإشارات والعلامات التي توضّح المعالم المدنية والجغرافية التفصلية الموجودة في المنطقة. يمكن أن تؤدّي هذه العلامات وظائف شديدة التخصُّص، كأن توثّق – كمثالٍ عرضه علينا المحاضر – جميع الأمكنة المهيَّأة لذوي الاحتياجات الخاصة في مدينتك. لو تم تطبيق هذا التوثيق على خرائط جميع المدن العربيَّة، لأصبح لدينا مرجعٌ هائل يدلك على كل ما قد تجتاجه في مدينتك أو أي مدينةٍ تزورها.

مكتبة ويكيبيديا:

جيك يتحدَّث عن مكتبة ويكيبيديا، في إحدى محاضرات لجنة المنح بمؤسَّسة ويكيميديا.

تحدَّث جيك من مؤسسة ويكيميديا في هذه المحاضرة عن تاريخ وتطوُّر مشروع «مكتبة ويكيبيديا»، وهو عملٌ رائع يهدف للسماح لمحرّري وكتاب المقالات على ويكيبيديا بالوصول مجاناً إلى مصادر المعلومات المدفوعة، كالمجلات والدوريات العلمية الرَّصينة التي تكون اشتراكاتها غالية الثمن قليلاً. كنتُ مهتماً بطبيعة الحال بهذا المساق لأنَّني أعمل في هذا المشروع حالياً.  كانت بداية مشروع مكتبة ويكيبيديا في سنة 2010 بمجلة JSTOR التي وافقت على توفير 200 حسابٍ مجاني لمحرّرين مختارين من ويكيبيديا (أذكر أننا قدمنا وقتها أنا وأبو حمزة للحصول على وصولٍ إليها نيابة عن محرّري ويكيبيديا العربية، لكن كلينا رفضا). نشط المشروع كثيراً فيما بعد وحقَّق نجاحاً عالياً على ويكيبيديا الإنكليزية، ولذلك بدأ القائمون عليه بالتفكير بتوسعته ليشمل نسخاً أخرى من ويكيبيديا، ووقع  الاختيار على ويكيبيديا العربيَّة لتكون أول لغة جديدة تتمُّ تجربة المشروع فيها. بعد استفتاءٍ للرأي أعده جيك في ويكيبيديا العربية، أجمع أغلب محرّرينا على أنَّ أكثر ما يحتاجون إليه هو كتب ليستعملوها كمصادر بكتابة المقالات.

وهكذا أطلقت النسخة العربيَّة من مكتبة ويكيبيديا في شهر أبريل الماضي، لتتضمَّن للمرة الأولى إمكانية طلب كتب، حيث أنَّ النسخة الإنكليزية كانت مقتصرة على المجلات، بل وبالخصوص المجلات المتاحة على الإنترنت، وقد عينّا أنا والصديق محمد عودة لنكون مشرفين على المشروع في مرحلته الأولية. إلا أنَّ فكرة الكتب أثبتت أنها – على الأقل في حالة منطقة من العالم الثالث كالعالم العربي – غير عمليَّة، فقد واجهنا مشكلات عديدة جداً بشحن الكتب إلى من يطلبونها، وكان الوضع سيئاً إلى حدّ أن حوالي 70% من الكتب التي طلبها المحرّرون العرب لا يمكن شحنها إلى معظم بلدان العالم العربي. على العموم، لم يفصِّل جيك كثيراً بالحديث عن هذه النقطة لكي لا يعطي صورة سلبية عن المشروع P:

كان من المثير للاهتمام أيضاً أن المساق تناول حالة المشروع الناشئ في لغاتٍ أخرى ظهرت بعد العربية، وكنتُ مهتماً جداً بمعرفة كيف سارت الأمور في تلك اللغات. كانت أبرز نسخة إلى جانب الإنكليزية والعربية حالياً هي الصينية (كما كانت هناك نسخٌ جديدة لم يتم تفعيل العمل بها بعد، في الإسبانية والألمانية)، وقد تحدثتُ بعد انتهاء المحاضرة بإسهابٍ مع المشرف الرئيسي على النسخة الصينيَّة من المشروع – أديس – وأوضح لي بأنَّ مشروعهم يقتصر حالياً بالدرجة الأولى على قاعدة بيانات إلكترونية عملاقة للكتب الصينية، حيث أنَّ كل ما يفعلونه هو إعطاءٍ حسابات للمحرّرين المهتمِّين بقاعدة البيانات هذه، وقد وفَّر هذا عليهم الكثير من التعقيدات التنظيمية والإدارية بينما أعطى الويكيبيديين الصينيين كل ما يريدون. تحدَّثنا قليلاً عن المكتبة العربية والتحديات التي تواجهها فيما يتعلَّق بشحن الكتب، وقد اتفقنا في النهاية على أنَّ إرسال نسخٍ ورقية من الكتب إلى المحرين فكرة غير عملية، وأنَّه يجب قدر ما أمكن أن يقتصر المشروع على المنشورات الإلكترونية.

فروع ويكيميديا:

جانب من اجتماع لاتحاد فروع ويكيميديا في برلين سنة 2012.

حضرتُ تالياً محاضرة عن تاريخ التعاون بين الـChapters (فروع مؤسسة ويكيميديا في كل بلد من البلدان) والدروس التي يمكن تعلمها من ماضي هذا التعاون، والتي ألقاها ويكيبيدي هولندي يدعى زيكو كان ممَّن بذلوا جهوداً كبيرةً لإقامة مؤسسة تجمع فروع ويكيميديا معاً. كانت المحاضرة سرداً تاريخياً بالأساس، إلا أنَّها ثرية ومهمة لكل من يسعى لترسيخ تعاونٍ بين مؤسسات ويكيبيدية في بلدان مختلفة، كحالنا الآن في العالم العربي مع ظهور العديد من المنظمات الويكيبيدية الصَّاعدة، والتي يمكن أن تتحول بدورها إلى Chapters في يومٍ من الأيام. كانت المحاضرة بالأساس شرحاً لأحداث تأسيس وإعلان «اتحاد فروع ويكيميديا»، حيث بدأ الأمر بالأساس بفكرةٍ من ويكيبيدي هولندي لتأسيس اتحاد يجمع كل فروع ويكيميديا معاً وينسق جهودها لتطوير ويكيبيديا، ونجح بعد جهد كبير بجمع عدد كبير من ممثلي هذه الفروع في برلين ربيع عام 2012، حيث أجري اللقاء الأول للاتحاد، واتفق على إجراء لقاءٍ ثان في ويكيمانيا 2012 بواشنطن بعد ذلك ببضعة شهور، وهناك أعلن عن إطلاق الاتحاد رسمياً.

إلا أن الأمور استمرَّت بالتدهور شيئاً فشيئاً منذ ذلك الحين، إذ أن أياً من الفروع المشاركة بالاتحاد لم يكن يأخذ الأمر بجدية. أثناء مرحلة التأسيس، كان يحاول المؤسس الهولندي (زيكو) أن يجد من يعاونه على تنفيذ المهام الأولية، كتجهيز الوثائق القانونية وسياسات عضوية الاتحاد وغير ذلك، إلا أنَّه كان ينتهي به المطاف وحيداً في كل مرة، ولم تكن إدارات فروع ويكيميديا الأخرى متعاونة البتة، إذ لم تقدم على بذل أدنى مجهود لدعم الاتحاد أو مساعدته بالظهور. بل والأدهى من ذلك، استهترت فروع ويكيميديا بالمسألة كلها، إلى حدّ أن الممثلين عن نصف الفروع بالكاد كانوا يحضرون اجتماعات الاتحاد فعلياً. مع الوقت، أصبحت معظم الفروع تنظر إلى الاتحاد على أنه مشروع فاشل، وبدأت بعضها – كويكيميديا فرنسا – بالمطالبة بسحب عضويتها، وفقد الاتحاد كل دعمه تقريباً. في هذا الوقت… أصبح اتحاد فروع ويكيميديا محض مؤسسة ميتة، تلفظ آخر أنفاسها ببطء.

امتلأت الليلة السابقة – كغيرها – بالحفلات والموسيقى والأغاني البريطانية الجميلة، إضافةً إلى فقراتٍ كوميدية ببعض الروح الويكيبيدية، بل وزاوية ألعاب فيديو لمن يهمُّه الأمر!

قوارئ الويكي في أفريقيا:

أحد قوارئ الويكي، وهي أجهزةٌ إلكترونية صغيرة مصمَّمة لمن يريد قراءة ويكيبيديا دون إنترنت.

كان أول مساقٍ حضرته في اليوم الثالث والأخير من إعداد «إيسلين» وزوجها «فكتور غريغاس»، وهو رجل رائع يعمل في وظيفة شديدة الغرابة بمؤسَّسة ويكيميديا، اسمها الرسميّ راوي القصص (Storyteller)، فهو يقوم بالدرجة الأولى بتصوير أفلامٍ وفيديوهات قصيرة تتحدث عن الويكبيديين وحركة ويكيميديا. تعرَّف فكتور وإيسلين منذ نحو سنةٍ على أجهزة رائعة هي قوارئ الويكي، وهي قوارئ نصية إلكترونية بسيطة أطلقت للمرَّة الأولى عام 2009، لتوصيل موسوعة ويكيبيديا إلى من يريدها من دون الحاجة لاتصال الإنترنت، حيث يحتوي على كجهاز على شريحة SD عليها نسخةٌ كاملة من جميع مقالات ويكيبيديا. إلا أنَّ تسويق هذه الأجهزة ركَّز بالدرجة الأولى على البلدان المتطوّرة كأمريكا، حيث كانت الحاجة إليها صغيرةً جداً، ممَّا أدى إلى فشل المشروع ووضع الشركة على حافة الإفلاس.

صدمت إيسلين بعد محاولة تواصلها مع الشركة المصنِّعة بهذه الحال.، حيث أخبروها بأنَّ ما بقي لديهم هو 20,000 جهاز مرميَّة في مخزنٍ قديم بتايوان منذ سنوات، وأنهم بالتأكيد لا ينوون إنتاج المزيد. حصل فكتور وإيسلين على تمويل من مؤسَّسة ويكيميديا لشراء بضع مئات من الأجهزة، ووزَّعاها على ثلاث مدارس بمناطق فقيرة جداً في الهند والمكسيك وجنوب أفريقيا. كانت هناك بعض المشاكل التقنية التي واجهها المشروع، كمشكلة البطاريات، حيث أنَّ الشركة المصنِّعة ادَّعت أن البطاريات يمكنها العمل لمدة شهرٍ دون انقطاع، إلا أنَّ ما حدث في الواقع هو أن الطاقة كانت تنفذ باستمرارٍ خلال أيام معدودة من الاستعمال. بل وفي بعض الحالات… ماتت البطاريات تماماً بعد أسابيع من إعطاء الأجهزة للطلاب.

لكن من الجهة الأخرى، حقَّقت التجربة نجاحاً عظيماً، فقد استعمل الطلاب الأجهزة بكثرةٍ شديدة، وأصبحوا يراجعونها باستمرار للتعرف على المصطلحات والأمور الجديدة التي لم يسمعوا بها من قبل. وقد وجد ثلثا الطلاب أنَّ أداء واجبتهم المدرسية أصبح أسهل بكثيرٍ مع قوارئ الويكي. كما أنَّ الطلاب أخذوا بمشاركة الأجهزة مع عائلاتهم وأصدقائهم بعد أن سمح لهم – في معظم المدارس المشاركة – بأخذ الأجهزة إلى منازلهم.

الويكي تهوى البرلمانات:

كانت إحدى آخر المساقات التي حضرتها عن مشروع الويكي تهوى البرلمانات، ومع أنَّ الفكرة من هذا المشروع بسيطة وصغيرة المستوى، إلا أنَّها فكرة فريدة جداً وغير مسبوقة. ولدت الفكرة للمرَّة الأولى في ويكيبيديا الألمانية، ثم توسَّعت تدريجياً لتشمل العديد من اللغات الأوروبية، وهي تتمحور بالأساس حول مبادرةٍ غريبة للغاية: تصوير البرلمانات الأوروبية وأعضائها من الداخل ووضع صورهم على ويكيبيديا! حسب المحاضر، كان القائمون على المشروع في أوَّل الأمر متهيِّبين من فكرة طلب إذنٍ للدخول إلى البرلمان، حيث بدا أنه من المستحيل على مجموعة متطوعين بسيطين من موسوعة ويكيبيديا أن يحصلوا على إذنٍ لدخول مؤسَّسة بهذه الحساسية. لكن في حقيقة الأمر، ما إن بادر البعض بالذهاب وتوضيح طبيعة عملهم في ويكيبيديا وهدفهم من المشروع، فوجئوا بأنَّهم أخذوا إذناً لدخول البرلمان بكلِّ سهولةٍ ويُسر. في شهر فبراير الماضي، قرَّر منظّمو الويكي تهوى البرلمانات الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة في مشروعهم، حيث سعوا للحصول على إذنٍ بدخول برلمان الاتحاد الأوروبي ذاته، ونجحوا بالحصول على الإذن بالفعل، فأرسلوا على عجلٍ إلى جميع فروع ويكيميديا الأوروبيَّة يطلبون ممثلّين عنها ومتطوعين للمشاركة. أقام نحو 50 متطوعاً في مدينة ستراسبورغ الفرنسيَّة، قابلوا خلالهما مئات أعضاء البرلمان الأوروبي وأضافوا صوراً ومعلومات عنهم إلى مقالات ويكيبيديا: انتهى المشروع بحصيلة أكثر من 2,000 صورة و200 مقطع فيديو رفعت إلى ويكيميديا كومنز.

اللقاء العربيّ:

صورة ويكيمانيا الجماعية للويكيبيديّين العرب!

مع أنَّ اللقاءات كانت حاضرةً وبكثافة طوال فترة المؤتمر بين الحضور العرب، إلا أنَّنا كنا قد اتفقنا على إجراء لقاء رسميّ في مساء 9 أغسطس، ثاني أيام المؤتمر. وصف أسامة تفاصيل الاجتماع بشكل جيّد في مدوّنته، لذلك سأكتفي بالإدلاء بإيجازٍ عن انطباعي الشخصي، وهو سلبيٌّ بعض الشيء.

لا أعتبر أنَّ اللقاء بالإجمال كان ناجحاً جداً، لأسباب عدة. كانت هناك الكثير من إضاعة الوقت والتشعُّبات في مناقشة نقاط فرعية غير مهمَّة، وكانت معظم وجهات النظر المطروحة تركز على نقاطٍ دقيقة بعينها بدلاً من القرارات العامة التي من المهمّ فعلاً اتخاذها. ومع أنَّ أسامة حاول – لهذا الغرض على ما أعتقد – وضع محاور رئيسية للنقاش، إلا أنَّه في كل مرة ما إن يبدأ الناس بالحديث حتى نخرج عن النقطة الأصلية وندخل في مجادلةٍ مطولة عن موضوع يكاد لا يكون مرتبطاً بتاتاً بما بدأنا به. ومن السيء أن اللقاء قد قُطِعَ قطعاً عندما أبدت إحدى المشاركات حاجتها للذهاب، فقرَّرنا أن نتوقَّف قليلاً للالتقاط صورة جماعية قبل ذهابها، لكن ما إن انتهت الصورة حتى تفرَّق الناس ولم يهتمَّ أحدٌ بالعودة لمناقشة ما لم يتمَّ تقريره.

على العموم ومع أن انطباعي ليس جيداً كثيراً، لكن كانت هناك بعض النقاط الإجابية. فإجراء تواصلٍ وتنسيقٍ بحدّ ذاته بين الويكيبيديين العرب هو خطوة نحو الأمام، كما أنَّنا تمكنا من إيضاح نقاطٍ مهمة والاتفاق عليها، كالعلاقة بين المؤسسات الويكيبيدية في كل دولةٍ عربية والمؤسسة الموحدة للعرب التي نريد تأسيسها، فقد أجمعنا على أنَّه ما من تعارضٍ بين وجود الاثنين، وأنَّ من حق كل دولةٍ أن تكون لها مؤسستها، بينما ستكون المؤسسة العربية مظلَّة تدعم وتساعد جميع هذه الدول. كما وقد حصلنا على بعض المتطوعين لتشكيل مجموعات عملٍ لتقود هذا المشروع إلى الأمام، على أمل أن تقوم هذه المجموعات بشيءٍ ما مستقبلاً!

ختام المؤتمر:

قبل موعد الختام بساعتين، خطرت للزميل أسامة فكرة مذهلة: لم لا نذهب لزيارة قبر كارل ماركس؟ مع أنَّني صدمت بتوجهاته الفكرية الفاسدة واهتمامه بزيارة قبور مثل هؤلاء الأشخاص، إلا أنَّ كل جدول المحاضرات المتبقّية كان ممللاً، فقرَّرت الذهاب معه P: وكانت النتيجة أنَّنا فوتنا الصورة الجماعية السنويَّة لويكيمانيا… والأرجح أنه كان عقاباً إلهياً لما اقترفناه، والله أعلم. يمكنك أن ترى هذه الصورة الجميلة بالأسفل، لكنَّك – للأسف – لن تجدني فيها، حتى لو كانت لديك عدسة مكبّرة قويَّة.

كان ختام المؤتمر من جزئين: كلمة جيمي ويلز المعتادة عن حالة الويكي، وخطابٌ مطوَّل للمدير التنفيذية الجديدة – ليلى تريكتوف – بعد كلمتها السريعة في الافتتاح. والحقيقة أنَّني ذكرت تفاصيل كلا كلمتيها ضمن فقرة الافتتاح، لأنّي لم أعد أذكر ما جاء في كلّ منهما! أما جيمي ويلز فقد تحدَّث بإسهابٍ طويل، وقد فقدتُ التركيز في كلمته عدة مرَّات بواقع الأمر، لكنه بشكلٍ عام كان يتحدث عن تركيب مجتمع ويكيبيديا، وعن المحررين السيئين مثيري المشاكل في المجتمع، وكيف يجب علينا تجاهلهم وبناء علاقة متناغمة وودية بين أعضاء المجتمع الويكيبيديّ.

في العادة، كان يجب أن تتضمَّن كلمة حالة الويكي جزءاً يطلب منه جيمي ويلز من جميع الحضور الوقوف، ثم يقول: “فليجلس كل من لم يحضر أي مؤتمر ويكيمانيا قبل هذا”، ثم “فليجلس كل من لم يحضر أكثر من مؤتمر ويكيمانيا واحدٍ قبل هذا”، ويستمرُّ بذلك حتى ينتهي الأمر بحوالي عشرة أشخاص، هم أعضاء نادي الحضور المثاليّ، الذين لم يفوّتوا أي نسخةٍ من ويكيمانيا منذ إقامة المؤتمر الأول سنة 2005. إلا أنَّه قام بذلك في حفلة الافتتاح، فلم يبقى الآن سوى اختيار ويكيبيديّ السَّنة، وهو أحد التقاليد التي اعتاد عليها جيمي ويلز أيضاً. وقع الاختيار على إيهور كوستينكو، وهو شابٌّ أوكراني فقد حياته خلال مظاهرات أوكرانيا مطلع هذا العام، أثناء تفريق قوات الأمن بوحشيَّة لإحدى الوقفات الاحتجاجية المعارضة للحكومة. مع أنَّ خسارة هذا الشاب كانت مؤسفةً جداً، إلا أنَّه بصراحةٍ كان اختياراً غير موفَّق للمنصب، فالموت في سبيل قضيَّة هو شيءٌ يقدَّر تقديراً عظيماً، لكن هناك الآلاف مثل هذا الشاب في بلدانٍ عديدة قضوا حياتهم في سبيل قضايا شبيهة خلال السنة الماضية، وأما إن أردنا قياسه بالمعيار الأهم وهو معيار ويكيبيديا، فهو لم يساهم إلا بنحو ألف تعديلٍ إلى ويكيبيديا ولم يكن نشطاً كثيراً، بينما يمكنني القول بشيءٍ من الثقة أن الويكيبيدي النموذجي الذي يأتي إلى ويكيمانيا يكون لديه على الأقل 20 ضعف ذلك الرَّقم، وأحياناً أكثر بكثير. على كلّ حال، يبدو أنَّ جيمي ويلز بدأ يتعب من مهمَّة اختيار الويكيبيديّ السنويَّة هذه، فقرَّر بدءاً من العام القادم فصاعداً أن يصبح الاختيار قائماً على أساس ترشيح وتصويت أعضاء مجتمع ويكيبيديا، دون تدخُّلٍ منه هو.

صورة ويكيمانيا الختاميَّة السنويَّة.

كان ويكيمانيا تجربةً رائعة بحقّ ولا تُقدَّر بثمن. مع أنَّني أحبطتُ من أدائي لبعض الأسباب الشخصيَّة، إلا أنَّ هذا العام أكَّد لي ما اكتشفته في مؤتمري الأول السنة الماضية: تفويت جميع مؤتمرات ويكيمانيا السَّابقة كان أكبر غلطةٍ ارتكبتها في حياتي… والتي لا يجب أن أكرّرها قط! أتمنى من كل قلبي أن ألتقي بالجميع السَّنة القادمة في المكسيك.

الحدث الذي سيغيّر مجرى التاريخ… اكتشاف الكوكب كيبلر168f


توأم الأرض… كيبلر 168f.

أعتقد أننا جميعا اعتدنا – في السنوات الأخيرة خصوصاً – أن الصحف يجب أن تكون مملوءة عن آخرها بالأخبار السياسية، تظاهرات… انتخابات… اضطرابات… أزمات. لكن من المثير للاهتمام أنَّ خبراً علمياً في طبيعته تمكن هذا الأسبوع من شقّ طريقه – ولست أدري كيف – إلى العناوين الأولى للعديد من النشرات الإخبارية، وكوني من أشد المهتمين بنشر الثقافة العلمية.. وبما أن علم الفلك خصوصاً كان ولا زال أحد أكبر هواياتي، فأعتقد أنه لا بد من تخصيص “خاطرة” قصيرة للحديث عن الموضوع.

أعلن اكتشاف الكوكب كيبلر 168f للصحافة صباح يوم الخميس الماضي – 17 أبريل/نيسان – ليحدث ضجَّة إعلاميَّة مخيفة. فهذا الكوكب هو بحجم الأرض نفسه تقريباً، وهو كوكبٌ صخري مثلها.. ممَّا يعني أن لديه سطحاً صلباً يسمح بنشوء الحياة عليه، ومن الرَّاجح أن غلافه الجويَّ رقيق كفاية بحيث يحول دون وقوع ظاهرة الاحتباس الحراري المدمِّرة للحياة. الأهم من ذلك كلِّه، هو أن كوكبنا الجديد يقع في منطقة حسَّاسة جداً من مداره حول نجمه تُسمَّى نطاق الحياة (The Habitable Zone)، هذه المنطقة… هي التي يكون فيها الكوكب على المسافة المعتدلة والمثالية من نجمه، بحيث أنَّه ليس حاراً أكثر من اللازم، ولا بارداً أكثر من اللازم، بل إن مناحه ببساطة مثاليٌّ لنشوء الحياة. لهذه الأسباب كلُّها، لا بُدَّ أن يكون هذا الاكتشاف حدثاً هائلاً!

على العموم، ما قلتُه للتوّ لا يعني أبداً وإطلاقاً أن عنوان هذه التدوينة كان حقيقيًّا بأي طريقة من الطرق، فهو بالحقيقة محض دعابة سمجة، مُستمدَّة من اسم التدوينة السَّابقة مباشرة الثورة النيوليثية.. الحدث الذي غيّر مجرى التاريخ، وإن هذا العنوان هو للأسف.. ليس إلا سخرية من الحجم المخيف الذي أعطته وسائل الإعلام العربيَّة – التي لا تفقه شيئاً في العلم والعلوم – لاكتشافٍ تافه على الصعيد الأكاديميّ يقدّم إضافة صغيرة جداً لعلم الفلك. لماذا هو اكتشاف تافه؟ هناك أسبابٌ عديدة.

خريطة تظهر نطاقات الحياة (Habitable Zones) حول الشمس وبعض النجوم الأخرى، وهي المناطق التي تكون حرارتها معتدلةً بحيث تسمح بوجود الحياة.. كما هي الحال في الأرض مثلاً، وفي توأمها المدهش كيبلر 168-f.

سأبدأ بالسَّبب الأهم. إن اختيار خبر علمي عديم القيمة وإثارة إعصار من التفاهات حوله هو إحدى هوايات الصحافة العربيَّة، لكن لو كانت هذه الصحافة البائسة أصغت قليلاً لأنباء الاكتشافات العلمية خلال السنوات الـ7 الماضية، لاكتشفت أن هذه الفترة شهدت عشرات الاكتشافات المماثلة تماماً لكواكب تقع ضمن نطاق الحياة، ومؤهَّلة بدرجاتٍ مقاربة جداً في العديد من الحالات لوجود الحياة عليها. رغم ذلك..  فإنَّ صحفيّينا الفذين والرائعين كانوا نياما طوال هذه السنوات. الذي أيقظ الصحافة فجأة وأثار ولعها الهستيريّ بكوكب 168f تحديداً، هو سبب تافه: أنَّ حجم هذا الكوكب قريبٌ – بقدر أو بآخر – من حجم الأرض. وذلك عدا عن حقيقة أنَّ حجم الكوكب الفعليَّ لا زال غير واضح.

إن الميكانيكية التي اكتشف بها الكوكب تدعى تقنية العبور، وهي تقنية تعتمد على استغلال صدفةٍ ميكانيكية بسيطة جداً لاكتشاف الكواكب البعيدة عنَّا. باستعمال طريقة العبور، تقوم حسَّاسات ضوئية دقيقة جداً في التلسكوب بقياس لمعان أحد النجوم في وقتٍ ما، ثم تنتظر بضعة أيام أو أسابيع، وتأخذ قياساً آخر. من وقتٍ لآخر وإن كنَّا محظوظين حظاً كبيراً بالاتجاه الذي يدور فيه الكوكب بالنسبة لنا، فقد يظهر خفوت بسيط جداً في لمعان ذلك النجم، قد يكون بمقدار 1% أو أقل. ما الذي يعنيه هذا الانخفاض؟ إنَّه يعني أن شيئاً صغيراً للغاية في حجمه بالنسبة للنجم قد مرَّ من أمامه مروراً خاطفاً، فحجب عنَّا مقداراً بسيطاً من ضوئه، أدى إلى حدوث هذا الخفوت. بأخذ قياسات متعدّدة لاحقة، يمكن إثبات أن هذا الشيء الصغير، هو كوكبٌ يدور حول ذلك النجم. المشكلة أنه عند اكتشاف كوكبٍ بتقنية العبور.. فإنَّ الوسيلة الوحيدة لمعرفة أيّ شيءٍ عنه هي مقارنة حجمه بحجم نجمه، والمشكلة.. هي أنَّ حجم نجمه من الأساس ليس مقيساً بدقَّة. حسب البيانات الحالية، قد يكون الكوكب الجديد بضعف حجم الأرض، وكذلك قد يكون أصغر منها.

مع ذلك… فإنَّ هذا الأمر ليس بذي أهمية، لأن حجم الكوكب لا يؤثّر بحقيقة الأمر بشيءٍ على إمكانية الحياة على سطحه، النقطة المؤثرة الفعليَّة هي كتلة الكوكب فقط، لأنها قد تجعل جاذبيته قوية أكثر من اللازم بحيث أن الكائنات الحية لن تستطيع التكيف معها. فكيف يمكن قياس كتلة كوكبٍ اكتشف بتقنية العبور؟ إنَّ تقنية العبور لا تقيس سوى المقدار الذي يحجبه الكوكب من ضوء نجم يمر أمامه صدفة، وبالتالي فإنها لا تصلح إلا لقياس حجم الكوكب، وليس لأيّ شيءٍ آخر. عندما يود العلماء معرفة كتلة كوكبٍ كهذا، فإنَّه ليس لهم سوى أن يقدِّروا كثافته تقديراً، مفترضين أن تركيبه الكيميائي في طبيعته إمَّا صخري أو غازي أو جليدي.. مع أنَّهم لا يملكون أيَّ بياناتٍ قوية يحكمون منها على ذلك. كل ما يفعلونه هو أنهم يفترضون تركيب الكوكب الكيميائي بأكمله من حجمه فقط، ومع أنَّ هذا الأسلوب ينجح عادة… إلا أنَّه يفتقر للدقة تماماً (حتى لو كان الكوكب صخرياً بالفعل.. فذلك لا يعني أن تقدير كتلته بهذا الأسلوب سيكون دقيقاً البتة)، ولا يمكن التأكُّد من صحّته قط.

رسمٌ توضيحيٌّ يظهر كيف يمكن اكتشاف كوكبٍ بعيد بتقنية العبور، وهي تقنية لا تسمح بتحديد كتلة الكواكب الأخرى بدقّة.

حتى ولو تبيَّن أن كل هذه القياسات الأولية كانت بحقيقة الأمر دقيقة، ولو تبيَّن أن كوكب كيبلر 168f كوكب مائي معتدل المناخ عليه كل الظروف المطلوبة لدعم الحياة، بل حتى ولو وجدت الحياة فعلاً في هذه اللحظة على سطحه بازدهار تام، فإنَّ قدرتنا الحالية، وقدرتنا خلال الـ100 أو 200 أو الألف عام التالية على الأقل، على أن نعرف أنَّ هذه الحياة موجودة عليه.. هي 0%، لا تقلُّ ولا تزيد. الرقم الذي قلته للتوّ لم يكن استشهاداً أدبيا عشوائياً، بل الحقيقة أن ألف عام هي أقل مدة يمكننا خلالها أن نتحقق من وجود حياة على كوكب كهذا، فقد أثبت ألبرت آينشتاين في النظرية النسبية أنَّه لا يمكن لأي مادة في الكون تجاوز سرعة الضوء، وبما أن وسيلتنا الوحيدة للاتصال مع أيّ كائنات أخرى هي محض نوع من الضوء (الموجات الراديوية كما نعتاد تسميتها)، وكون كوكبنا المنشود كيبلر 186f يبعد عنَّا مسافة 500 سنة ضوئية.. فإن أدنى فترة زمنية سيستغرقها إرسال أيّ رسالة إليه وتلقّي الرد عليها، هي ألف عام. وذلك.. إذا غضضنا النظر عن أن وجود الحياة المجهرية أو الحياة البدائية، هو دوماً الاحتمال الغالب، لا الحياة العاقلة التي يمكننا التواصل معها. بكلّ بساطة… فإنَّ هذا الاكتشاف لن يقدّم أي إضافة مميزة لعلم الفلك خلال الألف عام التالية على الأقل.

وبعد كلّ ذلك.. فإنَّه من الجميل إلقاء نظرةٍ سريعة على بعض الصُّحف العربية، لنرى كيف تناولت صحافتنا هذا الحدث الهائل. يقول مقالٌ منشور على موقع واحدةٍ من أشهر قنوات التلفزة العربيَّة أجمعها“أعلن علماء فلك أنهم اكتشفوا كوكباً جديداً يحمل مواصفات شبيهة بكوكب الأرض من حيث الحجم والظروف، وهو ما يعزز إلى حد كبير الاحتمالات بأن ثمة مخلوقات فضائية تشبه البشر ربما تعيش على ذلك الكوكب”. ويقول لك كاتبٌ عبقريٌّ آخر على أحد المواقع: “الاكتشاف هو الأقرب إلى إيجاد توأم حقيقي للأرض”، وقد مررت أثناء جولتي الجميلة بمترجم محترف كتب في مقاله يصف عظمة الاكتشاف: “إن هذا الكوكب يقع على الحافه الخارجية للمنطقة السكنية المدارية والقريبة من خزانات المياه السائله بمجموعته الشمسية”.

لستُ أريد أن أنفي من كلّ هذا النَّقد أن اكتشاف هذا الكوكب مهمٌّ على الصعيد الفلكي، فهو من دون شكٍّ اكتشاف على قدر من الأهمية، إلا أنَّه لا يرقى بحال لعشر العاصفة الإعلامية المخيفة التي أثيرت حوله في الأيام الماضية، بل إنه اكتشافٌ شبيه باكتشافات عديدة أخرى كان ولا يزال يحققها علماء الفلك كل عام. ما يهمُّ بالنسبة لي الآن… هو أن تعقل صحافتنا العربيَّة الفذَة أهمية العلوم، وتتعب نفسها قليلاً بتعيين من هم أهلٌ لكتابة الأخبار العلمية ومراجعتها وانتقائها.. عوضاً عن نشر أخبار تافهة مليئة بالمغالطات باسم العلم والعلماء.

الثورة النيوليثية.. الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ


من المعتاد أن نسمع في التلفاز والإذاعة والصحف عن الثورة الفرنسية أو الأمريكية أو البلشفية، أو حتى ثوراتٍ غير سياسية في طبيعتها كالثورة الصناعية. لكن، قد يكون العديدون لم يسمعوا بعد من الأساس بحدثٍ كان أكثر أهميَّة من معظم هذه الأحداث، ألا وهو الثورة النيوليثية، التي كانت إحدى أكثر المراحل حسما وتأثيرا في مجرى التاريخ الإنساني بأسره. ومع أنه موضوع غير اعتيادي بطبيعته، إلا أنَّني أجد أنه من الضروري كمدوّن مهتم بمسألة تقدم الأمم والحضارات، أن أتناول حدثا كهذا في مدونتي حتى ولو كان موغلا في قدمه.

إن الثورة النيوليثية حدث على قدر بالغ من الأهمية بالنسبة للبشر اليوم، وإنه ليس من المبالغة القول بأنَّ أيا من ملامح عالمنا الحديث لم تكن لتوجد لولا هذا الحدث، فقد كانت هي بداية كل شيء. وقعت الثورة النيوليثية قبل ما يُقدَّر بنحو 11,000 عام، ومع أنها هزّت العالم بأسره، إلا أنها لم تنطلق من مكان واحد، بل من أماكن كثيرة انشرت على مر أنحاء الأرض، وما يميّز هذه الأماكن جميعها تقريبا أنها كانت مهد الحضارة البشرية ومركز تقدمها وتطورها الأعظم لآلافٍ من السنين التالية. وعلى عظمة شأن هذه الثورة والتغيير الذي أحدثته في عالمنا، فإن دهشتنا ستصل ذروتها عندما نعرف كم كانت هذه الثورة – التي أسمِّيها الآن باسمها العلمي المعروف لا باسم أدبي دراميّ – بسيطة في طبيعتها: إنها اكتشاف الزراعة.

هناك خلافٌ كبير بين العلماء حول تاريخ ظهور الجنس البشري بالتحديد، حيث أنَّ ثمة بقايا قديمة لكائنات شبيهة بالبشر بقدر يزيد أو يقلّ تعود إلى حقبٍ تتراوح من 50 ألف سنة إلى مليوني عام مضت. وعلى كل حال، فإن تاريخ البشر على هذا الكوكب لا يقل عن عشرات آلاف السنين على الأرجح. خلال تلك الأزمنة الساحقة، عاش الإنسان تماما كما تعيش أي حيوانات ضارية نعرفها اليوم، كالأسود والنمور وغيرها، فقد كان يحصل على قوته من صيد الحيوانات الأخرى بالدرجة الأولى، كما كان يعتمد اعتمادا بسيطا على جمع النباتات من فواكه وخضراوات برية وغيرها.

على عكس ما قد يبدو لنا أحيانا، فإن الصيد هو في الواقع عملية مرهقة تتطلَّب جهدا شاقا وأناة وصبرا كبيرين، وفي النهاية فإن للحظ دورا جليلا بنجاح الصيد من عدمه. كانت مشكلة الصيد الكبرى أنه لم يدعم استقرار البشر ولم يسمح لهم بالعيش في مجتمعات كبيرة، فبسبب طبيعة الصيد الموسمية وتقلُّص فرص نجاحه بتغير الفصل أو بحدوث كارثة طبيعية (كالجفاف والبراكين والزلازل وغيرها)، فإنَّ الاقتيات عليه كان يجبر الناس على عيش حياة هجرةٍ وترحال لا مجال فيها للاستقرار والتأقلم مع مكان واحد، كما لم تكن هناك إمكانية لأن تتشارك جماعتان مختلفتان منطقة واحدة للصيد، لأن فرصهما بالحصول على طرائد ستتضائل كثيرا، حيث أن الموارد الطبيعية المتاحة في مساحة كبيرة من غابة مثلا لا تكفي إلا لسد حاجة عدد قليل من الناس من الغذاء.

سارت حياة الجنس البشري على كوكب الأرض على هذا النحو لفترة طويلة جدا، لا تقل عن عشرات آلاف السنين، كان الإنسان فيها حيوانا لا يختلف كثيرا عن أي حيوان بري آخر، يقضي كل حياته في الصيد والأكل والنوم. كان الشيء الذي يُميّز البشر في أسلوب عيشهم هو أنهم اعتمدوا ليعيشوا على أدوات قتال صنعوها بأنفسهم من الخشب والحجر، عوضا عن الاعتماد على أسلحة طبيعية كالأنياب والمخالب. لكن وحسب ما توحي لنا سجلات الآثار على الأقلّ، فإن بشر أولئك العصر كانوا متكيفين مع حياة البرية تماما ولم يبتدعوا أي وسائل متطورة للحياة.

بداية الاكتشاف:

خريطة توضّح مواطئ اكتشاف الزراعة الأولى على وجه الأرض، وكيفية انتقالها من تلك المناطق إلى باقي أنحاء الكرة الأرضية.

في حوالي عام 9,000 قبل الميلاد، ظهر اكتشافٌ جديد غيَّر مجرى التاريخ. ظهر هذا الاكتشاف في أماكن مختلفة من الكرة الأرضية خلال أوقاتٍ متقاربة، لكن أقدم بقعة ظهر فيها على الإطلاق كانت الهلال الخصيب في شمال الشرق الأدنى، أي في ما هو اليوم مشرق العالم العربي، في دول تشمل بالدرجة الأولى العراق وسوريا وتركيا، إضافة إلى بلاد أخرى مجاورة. بعد ذلك بنحو ألفي عام تقل أو تزيد، اكتشفت الزراعة مجدداً في وادي النهر الأصفر شرق الصين (حوالي 7,000 ق.م)، ثم في جبال جزيرة بابوا نيوغينيا المنعزلة قرب أستراليا (حوالي 7,000 إلى 4,000 ق.م)، فوسط المكسيك بأمريكا الشمالية والبيرو وفنزويلا بأمريكا الجنوبية (حوالي 3,000 إلى 2,000 ق.م)، وأخيرا في أعماق القارة الأفريقية. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا بعد ظهور الزراعة في كل منطقة من هذه المناطق، حتى انتقلت سريعا إلى البلاد المجاورة، فوصلت من الهلال الخصيب إلى الجزيرة العربية ووادي النيل وجنوب أوروبا وشبه القارة الهندية، ومن الصين إلى منغوليا إندونيسيا وجنوب شرقي آسيا، وهلم جرا.

ثمة نظريات عدة تحاول تفسير الأسلوب الذي أدى إلى انتقال البشر لحياة الزراعة. تقول النظرية السكانيَّة كما تسمى أن سبب تخلي البشر الأوائل عن الصيد هو تزايد أعدادهم بصورةٍ كبيرة، بحيث أنهم أصبحوا بحاجة لكميات من الطعام أكثر مما يمكنهم جمعه بأيديهم، فقرروا اللجوء للزراعة. أما نظرية الواحات – من جهةٍ أخرى – فتقول أنه بعد انتهاء العصر الجليدي، أدت موجات الجفاف الكبيرة إلى لجوء جماعات البشر إلى الواحات الصحراوية بحثا عن الطعام، حيث عاشوا بالقرب من المواشي البرية، مما دفع البشر إلى استئناسها بمرور الوقت، وترافق ذلك مع البدء بزراعة بذور النباتات (وإن هذه النظرية الأخيرة لا تحظى بالكثير من التأييد اليوم، حيث تشير الدراسات الحديثة إلى أن مناخ الشرق الأدنى كان يصبح أكثر رطوبة في ذلك الوقت لا أكثر جفافا). وأما نظرية الولائم فتقترح أن بعض الناس اهتموا بإقامة ولائم الطعام الكبيرة كوسيلة لكسب التأييد والسيطرة في مجتمعاتهم، مما أدى بهم إلى اللجوء للزراعة كوسيلة للحصول على الطعام. رغم هذا، فإنَّ ثمة نظريات عديدة مطروحة بهذا الخصوص، وليس هناك إجماعٌ علمي واسع على أيٍّ منها.

التحول التاريخي:

قامت المستعمرات البشرية الأولى في التاريخ حول الحقول الزراعية.

لماذا كان اكتشاف الزراعة مهما جدا؟ السبب بسيط إلى حد مدهش: الاستقرار والنمو السكاني. كانت حياة الصيد تدفع البشر القدامى إلى عيش حياة ترحال قاسية، لم يستطيعوا فيها الاستقرار بأي مكان، حيث كانوا مضطرين للتنقل دوما بحثا عن أرض جديدة للصيد. وكانت هذه المهمة الشاقة تستهلك كل وقتهم وتمنعهم من الاحتكاك بالبشر الآخرين إلا نادرا. لكن اكتشاف الزراعة غير الأمور جذريا، فالزراعة سمحت لمجموعات كبيرة من البشر أن تعيش ضمن مساحات صغيرة جدا، ومع مرور الوقت أدى تطور التقنيات الزراعية تدريجيا إلى تفرغ أعداد أكبر من الناس لممارسة أعمال أخرى في الحياة غير البحث عن الغذاء والطعام، ووفقاً لهرم ماسلو للحاجات الإنسانية، فإن توفر قوت الحياة سمح للبشر بالبدء بالتفكير بحاجاتهم الأقل والأقل أهمية، حتى بدؤوا بتطوير حياتهم وتحسينها شيئا فشيئا على مر العشرة آلاف عام التالية.

كان أحد أهم التحولات التاريخية التي رافقت الانتقال من الصيد إلى الزراعة هو البدء بتأسيس القرى والمدن، فقد كانت هذه المرة الأولى في التاريخ التي يفكّر فيها البشر بالاستقرار ببقاع محددة والعيش بها في مجتمعات كبيرة عوضا عن المضي في حياة البدو الرحل. أدى هذا التغير المفاجئ إلى ارتفاع أعداد البشر بسرعةٍ كبيرة بعد أن حصلوا على الاستقرار وضمنوا ما يكفي حاجتهم من الغذاء، وبما أنَّه لم تعد هناك – بمرور الوقت – حاجة لعمل جميع البشر في إنتاج الطعام، فإنَّ التجارة سُرعَان ما ازدهرت، وبدأت الصناعة والفنون والمظاهر الثقافية المختلفة الأخرى بإعطاء ملامح مُميَّزة لشعوب البشر المتنوعة. ويعتقد علماء الآثار أن هذه التداعيات الناتجة عن الثورة النيوليثية، ظهرت للمرة الأولى بكامل صورها وأشكالها مجتمعة في مدن الحضارة السومرية الواقعة اليوم بالعراق، قبل نحو 5,500 عام مضت.

رغم أن بداية الثورة النيوليثية كانت بسيطة جدا.. ألا وهي في اعتماد البشر على الزراعة للحياة بدلا من الصيد، فإن المؤرخين يكادون يجمعون أنها كانت السبب المحوري الأول بجانبٍ عظيم من التطور الحضاري الذي شهدته البشرية لآلاف من السنين التالية، بل وإن تأثيرها من دون شك يمتد بقدر أو بآخر إلى زمننا هذا. عند النظر إلى أبرز حضارات العالم القديم فإن الأمر يبدو جليا، حيث أن جميع الحضارات المتطورة في تلك الحقبة انطلقت من المجتمعات الزراعية البسيطة، وقد كان مسقط رأس الزراعة في الشرق الأدنى أحد أهم مراكز هذا التطور، حيث ازدهرت مدنه في ظل الحضارات السومرية والآشورية والفينقية والفرعونية وغيرها ازدهارا كبيرا، وكذلك كانت الحال في الهند والصين وغيرها. وقد كانت الحضارة السومرية – التي يعتقد أنها أول من جمع بين كافة مظاهر الثورة النيوليثية مرة واحدة – هي مكان ولادة أول نظام كتابة في التاريخ. بل ويعتقد الباحث الأمريكي جارد دياموند في كتابه المعروف  أسلحة وجراثيم وفولاذ أن الثورة النيوليثية كانت أحد أهم الأسباب في تفوُّق الحضارة الأوروبية على باقي حضارات العالم.

لولا أنَّ أجدادنا القدماء اختاروا – لسببٍ أو لآخر – الانتقال في حياتهم من الاعتماد على الصيد إلى الزراعة، لكان عالمنا مكانا مختلفا كثيرا الآن. يظهر لنا هذا جليا.. كيف يمكن لأشياء حولنا نأخذها كبديهيات غنية عن التفكير، يمكن أن يكون لها تأثير عميق جدا على حياتنا، وكيف استطاعت إنجازات قد نعتبرها تافهة للوهلة الأولى في المسيرة البشرية، أن تغيّر مجرى التاريخ تماما. فقط تذكر الآن وأنت تقرأ هذه التدوينة.. أنه لولا اكتشاف الزراعة (وبالطبع العديد من الأشياء الأخرى بعدها)، لما كان أيّ شيء من هذه التكنولوجيا الرائعة موجودا حولك!