لعلَّك جربت بضعة مرَّات، على الأقل، خلال حياتك أن تشعر بصُعوبة مُعيَّنة تواجهك وأنت تحاول تعلُّم شيء جديد. ربَّما أحسستَ أنك بطيء جداً في حل مسائل الرياضيات، أو أنَّ قدرتك على استيعاب طريقة عمل آلة ما ليست جيِّدة كثيراً، أو حتى أنَّك ببساطة تفشل بالفوز في لُعبة حاسوب. لو حاولتَ مُمارسة أيَّة واحدة من هذه المهام وتكرارها عدداً من المرَّات، فلا بُدَّ وأن أدائك فيها سيتحسَّن، فستتمكَّن من الوصول في لعبتك إلى مراحل متقدِّمة أكثر، وستصبح قادراً على حل المسائل الرياضية بسُرعة أكبر، لكن هل هذا كافٍ؟ إلى أيِّ درجة يمكنك إتقان مهارة في الحياة بمُجرَّد تكرارها عدداً كبيراً من المرَّات؟ يقول مثل إنكليزي مشهور: «Practice makes perfect»، وهي عبارة تعني التدرب المُستمرّ على عملٍ ما لمُدَّة زمنية طويلة كفيلٌ بأن يجعلك مُتمكِّناً منه تماماً، لكن ذلك قد لا يكون صحيحاً بالضرورة، فالمسألة، في الواقع، أعقدُ بقليل من ذلك.
صادفتُ منذ مدَّة مقالة تتحدث عن تخلُّف نظام التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعو إلى إعادة هيكلته ليفتح مجالاً أكبر لإبراز مواهب الطلاب صغار السِّن، والتي – كما يرى كاتب المقال – تضيع الكثير منها في مرحلة مُبكِّرة دون أن تحصل على الفرصة لتنميتها وتطويرها. كانت التعليقات التي كتبها قُرَّاء المقالة مثيرة للاهتمام، وقد جذب أحدها انتباهي على وجهٍ خاص. كان صاحب التعليق يروي قصَّة عن نفسه: «مرَّة عندما كنتُ في الصف الرابع الابتدائي، طلب منا أستاذ اللغة الإنكليزية كتابة قطعة نثريَّة صغيرة ضمن فروضنا المنزليَّة. عندما أنهيت كتابة قطعتي وسلَّمتها لأستاذ المادَّة للتصحيح، انبهر بمستوى كتابتي، فأرسلني على الفور إلى مدير المدرسة، والذي أعجب بما كتبتُه إلى حدِّ شديد، لدرجة أنه كرَّمني ومنحني شهادة تقديريَّة، قائلاً لي أنَّي كنتُ أجيد الكتابة باللغة الإنكليزية بـ”مستوى طلبة الجامعات”». لكنَّ صاحب التعليق، يُتابع القصة: «ثم مرَّت السنوات، وأصبحتُ طالباً في الجامعة. ففوجئتُ بأنَّ الجميع أصبحوا الآن قادرين على الكتابة باللغة الإنكليزية بمستوى طلبة الجامعات».
قد تكون القصة فكاهيَّة قليلاً، لكنها أيضاً تُعبِّر عن واقعٍ جوهري، فلو كانت الموهبة الفطريَّة سبباً كافياً لتحقيق النجاح، لما اضطرَّ ذلك الفتى إلى ممارسة الكتابة على الإطلاق منذ تخرُّّجه من المدرسة الابتدائية، وكان سيُصبح – بالرُّغم من ذلك – كاتباً مهماً. لكن من الواضح أنَّ نقص الممارسة المُنظمة بإمكانه القضاء على الكثير من المواهب الطبيعيَّة قبل أن تحصل على فرصتها لتبرز. على سبيل المثال، من الواضح أن ألبرت آينشتاين لم يولد وهو قادر على كتابة معادلات الطاقة النووية، ومن المؤكَّد أنَّ ثوماس أديسون لم يكن يعرف كيفيَّة صُنع آلاتٍ كهربائية مُعقَّدة وهو طفلٌ في السَّابعة. مهما كانت الموهبة الطبيعيَّة قوية، فهي ليست قادرةً وحدها على جعل أي شخصٍ في العالم عبقرياً. الممارسة والخبرة والتدرب والعمل الشاق عوامل جوهريَّة في الحصول على النجاح بالنِّسبة لجميع الناس، مهما كانت قدراتهم الطبيعية تبدو متفوِّقة على الآخرين.
لكن، ما هو مقدار أهميَّة الدور الذي تؤديه الموهبة في مُساعدة لأشخاص الناجحين، في مُختلف المجالات، على تحقيق إنجازاتهم الكبيرة؟ الإجابة على هذا السؤال، في الحقيقة، ليست سهلةً على الإطلاق. فمُعظم الأشخاص الناجحين قضوا سنوات كثيرة وساعات طويلة من حياتهم في التدرُّب على مواهبهم قبل أن يحصلوا على الفرصة للنجاح فيها، فقد كان الروائي الأمريكي هرمان ملفل، مثلاً، يُكافح طوال عشرات السنين ليبيع كتبه في زمانه، إلا أنَّ اسمه انتشر بعد سنين طويلة من وفاته، عندما أثارت روايته «موبي دك» اهتمام العديد من النقاد الأدبيِّين في أمريكا واكتسبت شهرة هائلة لتبيع ملايين النُّسخ، ومع أنَّك قد تعتبر آينشتاين واحداً من أكبر عباقرة الفيزياء في التاريخ، إلا أنَّ درجاته بمادة الرياضيات في المدرسة كانت عاديَّة جداً، ولو اضطرَّ للعمل في مجال بعيد عن الفيزياء، فكان من المُمكن بسهولة أن لا يعرف أحدٌ بموهبته قط. من جهةٍ أخرى، توجد قصصٌ كثيرة عن علماء أبدوا نبوغاً وعبقريَّة منذ مراحل مبكرة في طفولتهم.
قاعدة الـ10,000 ساعة:
بدأت دراسة المنافسة بين الموهبة والممارسة الطويلة منذ وقت بعيد، فقد وضع الفيلسوف الإنكليزي جون لوك فرضيَّة «الحالة الافتراضية» منذ سنة 1690، والتي تزعم أن جميع الناس يُولدون بنفس المستوى من الإدراك والقدرات، ولا يتغيرون بعد ذلك إلا وفقاً للظروف والبيئة المحيطة بهم. نوقشت هذه الفكرة مراراً، من منطلقات فلسفية في جوهر الأمر، على مر القرون التالية، وبدأت تخضع للبحث العلمي منذ منتصف القرن الماضي. في سنة 1973، نشر عالم النفس وصاحب جائزة نوبل في الأدب هربرت سايمون نتائج بحث عن لاعبي الشطرنج، أظهر أنَّ فئة النخبة من لاعبي الشطرنج يحتاجون إلى استخدام 50,000 وحدة ذاكرة ليستطيعوا اللعب بمستوى احترافي، وهي مقدرة لا يستطيع الدماغ البشري اكتسابها إلا بمُمارسة مُكثَّفة طويلة الأمد. أظهرت بحوث أخرى أن قدرات الدماغ والذاكرة طويلة الأمد على استرجاع المعلومات بسُرعة وكفاءة، تؤدي دوراً جوهرياً في أداء المحترفين بالعديد من المجالات، وأنَّ ساعات التدريب الطويلة تلعب دوراً أساسياً في بُلوغ الأداء الاحترافي.
في سنة 2008 أصدر صحفيُّ كندي يدعى مالكولم غلادول كتاباً باسم Outliers: The Story of Success، الذي يستعرض فيه قصص نجاح عدد من الشخصيَّات الشهيرة في تاريخ الإنسانية، مثل بل غيتس وفرقة البيتلز البريطانية، ويُحاول دراسة العوامل التي قادتها إلى تحقيق إنجازاتها. مع أنَّ الكتاب تلقى مقداراً من النقد بسبب أسلوبه غير العلميّ في تناول بعض الأمور وبناء استنتاجات ساذجة عليها أحياناً، إلا أنَّه اكتسب شهرة كبيرة في وقت قصير، فقد تصدَّر قمَّة قائمة الأعمال الأكثر مبيعاً لصحيفة النيويورك تايمز لمُدَّة ثلاثة شهورٍ متتالية، ولعلَّه لعب دوراً مُهماً في توجيه اهتمام الباحثين وعامة الناس نحو مسألة المهارة والإبداع في السنوات الأخيرة. كانت واحدة من النظريات المثيرة للاهتمام التي طرحها الكتاب وتسبَّب بانتشار صيتها، هي ما يُسمَّى «قاعدة الـ10,000 ساعة»، لكن فكرة هذه القاعدة تعود، في الواقع، إلى دراسة علمية نشرت منذ سنة 1993.
تزعم قاعدة العشرة آلاف ساعة أنَّه، عندما يحاول أي شخصٍ في العالم اكتساب مهارة من نوعٍ ما، عليه التدرب عليها لمُدَّة لا تقل عن ثلاث ساعاتٍ يومياً على مدى عشر سنوات متتالية حتى يتقنها إلى درجة الاحتراف، أي بعبارة أخرى، عليه أن يصرف عشرة آلاف ساعة من حياته بمُمارستها مرَّة تلو الأخرى. حسبما تنصُّ القاعدة، ليس من الضروري أن يُصبح كل شخصٍ يصرف عشرة آلاف ساعة من حياته في التدريب على شيء مُعيَّن مشهوراً أو ذائع الصيت في مجاله، لكن جميع من حقَّقوا هذه الشُّهرة التزموا – حسبما تدعي النظرية – بهذا المقدار من التدريب كحدٍّ أدنى.
ظهرت فكرة قاعدة العشرة آلاف ساعة في بداية التسعينيات، عندما بدأ فريقٌ من علماء النفس في برلين بإجراء دراسة على عازفي الكمان المحترفين في عدة فرق أوركسترا ألمانية معروفَة، حيث ذهب الباحثون إلى العازفين، وسألوهم: «منذ طفولتكم، وحتى أصبحتم عازفين معتبرين في هذه الفرق، ما هو عدد الساعات التي قضيتموها بالتدرب على العزف كل يوم؟». أجريت الدراسة تحت قيادة الباحث السويدي أندريس إريكسون، وهو أستاذ جامعي مشهور بكونه باحثاً رائداً في مجال جديد في علم النفس يتعلَّق اكتساب الخبرة والمهارة، ويُسمَّى “Expertise studies”، وقد نُشِرَت دراسته في سنة 1993، تحت اسم The Role of Deliberate Practice in the Acquisition of Expert Performance، وتعني «دور الممارسة المُكثَّفة في اكتساب الأداء الاحترافي». اعتمدت الدراسة على مقارنة الوقت الذي يُقدِّر عازفو الكمان أنهم صرفوه بالتدرُّب منذ طفولتهم، مع مستوى أدائهم الفعليّ، فوجدت أنَّ مُعظمهم كانوا يبدؤون مُمارسة العزف وهم في الخامسة من عُمرهم، ويستمرون بالعزف لنفس العدد من الساعات أسبوعياً، وهو حوالي ساعتين إلى ثلاث ساعات، حتى يبلغوا سنَّ الثامنة. لكن مُنذ ذلك الوقت، تبدأ الأوقات التي يخصِّصونها للتدريب بالاختلاف بدرجةٍ كبيرة، ويختلف معها مستوى أدائهم صعوداً أو نزولاً. فالأفضل أداءً في سنوات شبابهم كانوا يعفزون لست ساعات أسبوعياً في عُمر التاسعة، ولثماني ساعات في الثانية عشرة، ولـ16 ساعة بعُمر الرابعة عشرة، وكانوا يصلون حدَّ العشرة آلاف ساعة من التدريب بحلول سنتهم العشرين. لا تقتصر هذه الساعات على المُمارسة البحتة للعزف، بل هي تشمل – بدرجة ما – كل الأنشطة المُتعلِّقة بالتعلم، مثل الاستماع إلى الموسيقى، وقراءة النوتات، ومناقشة المادة مع أشخاصٍ آخرين.
بالنسبة لجميع العازفين الذين تضمَّنتهم الدراسة، كان مستوى مهارتهم متوافقاً تماماً مع عدد مُعيَّن من الساعات قضوها بالتدرُّب، دون أن يختلف عدد ساعات التدريب بأي مقدار ذي قيمة لأشخاص مُعيَّنين لأن لديهم “موهبة طبيعيَّة” استثنائية أو شيئاً كذلك. فمثلاً، كانت المدة التي صرفها أصحاب الأداء الـ”متوسط” في التدريب من حياتهم حوالي 6 آلاف ساعة، أما من كان أداؤهم “ضعيفاً” فقد تدرَّبوا لأقل من ألفي ساعة، وهكذا. ذلك يعني، حسبما زعمت الدراسة، أنَّه لا وجود لموهبة فطرية تحكم قدرات الناس في العزف، بل إن نجاح العازفين في مهنتهم يرجع – بالغالبية العُظمى منه – إلى مقدار الوقت الذي استثمروه بتنمية مهاراتهم ومُمارسة ألحانهم.
أظهرت دراسة أندريس إريكسون أنَّ الناس قد يكونون قادرين على تجاوز نقصهم في مهارات مُعيَّنة، وتطوير إدراكٍ وقدرات جديدة تماماً فيها، بمُجرَّد ممارستها على مدى فترات زمنية طويلة. فحتى لو كانت لدى أحد لاعبي الشطرنج ذاكرة ضعيفة، أو لو كانت بديهة أحد العازفين بطيئة بحيث لا تساعده على العزف بالسرعة المناسبة، فسيكونون قادرين على تجاوز هذه الأنواع من النقص بالتدريب الطويل. ومع أنَّ إريكسون تحدث عن وُجود عوامل أخرى مُهمَّة أثرت على احتراف العازفين لعملهم، مثل حُصولهم على الدعم النفسي من الأشخاص المُقرَّبين منهم، واستمرار حافزهم الذاتيّ الذي يدفعهم للتدريب، وعدم تعرُّضهم لإصابات أو عوائق مشابهة، إلا أنَّه أصرَّ على أن تكون مدة التدريب هي العامل الحاسم والنهائي في تحديد درجة مهارتهم، وقدَّم نتائج تُدلِّل – بدرجة أو بأخرى – على ذلك الادعاء.
حازت دراسة أندريس إريكسون شعبيَّة كبيرة في المُجتمع العلمي وبين عامة الناس على حدِّ سواء، فقد حظيت بأكثر من 4,200 استشهاد في أوراقٍ علميَّة منشورة، وذاعت في صيتها على الإنترنت وفي الكُتب، خصوصاً بعد أن ذكرها مالكوم مراراً غلادول في كتاب Outliers. يُمكن القول أن عدداً جيداً من الباحثين والكتاب في مجال علم النفس، قد اعتبروا قاعدة العشرة آلاف ساعة أو السنوات العشر، أشبه بحقيقة علميَّة لفترةٍ جيدة بعد نشر دراسة إريكسون.
وجهة نظر العلم الحديث:
عشرة آلاف ساعة هي مُدَّة كبيرة جداً من الوقت، فهي تعني أنَّك لو قضيت ثلاث ساعاتٍ يومياً بالتدرب على مهارة مُعيَّنة، ستحتاج عشر سنواتٍ كاملة لكي تتقنها. قد يبدو من المنطقي أن أيَّ شخصٍ يتدرَّب على مهارة ما لمثل هذه المدة، لا بُدَّ وأن يحترفها في نهاية المَطاف، لكن وعلى نحوٍ مفاجئ، فإن البحوث التي تبعت دراسة أندريس إريكسون منذ سنة 1993 لا ترى ذلك. فمع أنَّ فكرة العشرة آلاف ساعة التي طرحها أندريس ظلَّت قائمة لفترة من الزمن، وحظيت بشعبيَّة عالية بين باحثي علم النفس لسنواتٍ عديدة، إلا أنَّها لم تعُد رائجة جداً في هذه الأيام. في الواقع، توحي الكثير من الدراسات الحديثة بأنَّ العمل الشاق، رُغم أهميَّته الكبيرة، قد لا يكون سوى عامل واحد مؤثِّر في نجاح الناس، لكنه بعيدٌ عن أن يكون بمرتبة عامل حاسم.
مع أنَّ الممارسة الطويلة تجعل الأداء يتحسَّن بالتأكيد، لكنها، على الأقل في نوع مُعيَّن من المجالات، قد لا تكون بديلاً كافياً عن الموهبة الفطرية. جاءت الضربة الكبيرة لدراسة أندريس إريكسون، والتي غيَّرت وجهة نظر المجتمع العلمي حول موضوع الموهبة بدرجة كبيرة، حديثاً جداً. حيث نُشرت في سنة 2014 دراسة تعاونيَّة بين باحثين في علم النفس من جامعات أمريكية عدَّة، من بينها جامعتا ميشيغان وبرونيل، تحت إشراف الأستاذ الجامعيّ ديفيد هامبرك. اعتمدت هذه الدراسة على مبدأ شبيه بدراسة إريكسون في التسعينات، فقد قارنت الأوقات التي صرفها عددٌ من لاعبي الشطرنج وعازفي الموسيقى والرياضيِّين والمدرسين بمُمارسة مهنهم مع مستوى أدائهم فيها. لكن في هذه المرَّة، لم يُحاول أعضاء الدراسة استجواب الأشخاص الخاضعين لها بأنفسهم، بل قاموا بجمع عددٍ كبيرٍ من الدراسات السابقة الموثَّقة، يبلغُ عددها 88 ورقة بحثية صادرة عن جامعاتٍ مختلفة، وقارنوا نتائجها بعناية لاستخلاص ما يُمكن من أدلِّة منها. بحسب النتائج التي توصَّل لها الباحثون، قالوا أنَّ الدراسات السابقة كانت قادرة على ربط عدد ساعات التدريب مع مستوى الأداء عند حوالي 12% من الأشخاص الخاضعين لها فحسب، أما الـ88% الآخرون فلم يكن من المُمكن تفسير مهارتهم بهذه الطريقة، فقد كان أداؤهم مُختلفاً اختلافاً كبيراً عن النتائج المتوقَّعة حسَبَ الأوقات التي قضوها في التدريب.
بصورةٍ عامة، تبيَّن أن تأثير التدريب طويل الأمد على المهارات التكرارية وثابتة الوتيرة (مثل جري المسافات الطويلة) أعلى بكثيرٍ منه على المهارات غير المُتوقَّعة (كالتعامل مع كارثة طيران). الأدهى من ذلك هو أنَّ تأثير ساعات التدريب على الأداء كان أعلى بنسبة كبيرة في الدراسات المعتمدة على التقدير، حيث يُقدِّر المشاركون المُدَّة التي كانوا يقضونها بالتدريب كل يوم، منه في الدراسات المعتمدة على السجلات اليوميَّة، والتي يُدوِّن فيها المشاركون فترات تدريبهم كلَّ يوم، وبالتالي تكون أعلى بمقدارٍ معتبر من الدقة. في الحقيقة، عندما نأخذ الدراسات التي احتفظ فيها المُشاركون بيوميَّات على حدة، لن تكون نظرية العشرة آلاف ساعةٍ قادرة على تبرير أداء أكثر من 5% من الأشخاص المُتضمِّنين في هذه الدراسات. ليس ذلك فحسب، فقد أظهرت دراسة ديفيد هامبرك أيضاً وُجود اختلاف لا يُستهان به في قدرة الفترة التي قضاها شخصٌ بالتدريب على تفسير أدائه الجيِّد عند مقارنة مجالاتٍ مختلفة ببعضها بعضاً، ففي حين أنَّ قدرة اللعب لدى 26% من لاعبي الشطرنج كانت مرتبطةً بالجُهد الذي بذلوه في مُمارسة اللعبة، فإنَّ هذا الارتباط ليس موجوداً إلا عند 21% من عازفي الموسيقى، و18% من الرياضيين، و4% من المُدرِّسين المتخصِّصين.
بحسب ما توصَّل إليه القائمون على هذه الدراسة، فإنَّ التدريب المُكثَّف يمكن أن يكون ضرورياً لتحقيق النجاح في حالات مُعيَّنة، لكن، لو لم تكن لدى الشخص المؤهلات الكافية ليكون ناجحاً في مجاله، فإنَّ صرفَ عدد كبير من الساعات بالمُمارسة الشديدة قد لا يساعده كثيراً. من جهةٍ أخرى، تبيَّن أن بعض الأشخاص الاستثنائيين قادرون على أن يحقِّقوا أداءً ممتازاً بعدد محدود جداً من ساعات التدريب. لكن، بالرُغم هذه النتائج، عليك أن تدرك أن هذه الدراسة تمكَّنت من رَبط 12% من أسباب نجاح الناس بالتدريب، لكنها لم تزعم أن النسبة الباقية عائدة إلى الموهبة المحضة أو حمض الـDNA وحده. ليسَ للموهبة تعريف دقيق متفقٌ عليه في المُجتمع العلمي حالياً، إلا أنَّ مُعظم الدراسات تميلُ الآن إلى وُجود عوامل كثيرة مُختلفة يُمكنها أن تؤثر على أداء الناس في مجالات ومهاراتٍ مُعيَّنة، والتي لا يُمكن بحالٍ نسبُها جميعاً إلى الموهبة فقط. فمثلاً، للعُمر الذي يبدأ عنده الشخص تعلم مهارة مُعيَّنة أهميَّة كبيرة بسُرعة وجودة إتقانه لها، فثمَّة اختلافٌ لا يستهان به بين من يبدؤون تعلم عزف الموسيقى قبل الدخول إلى المدرسة، ومن لا يمارسونها حتى العشرينات. التشجيع من العائلة والأصدقاء أيضاً عاملٌ جوهري، فمن دونه لا يُمكن إلا لأشخاص قليلين ملاحقة شغفهم. عدا عن ذلك، فإنَّ الوُصوليَّة إلى مصادر التعلم، والحصول على الفرصة للتدريب، ومستوى الذكاء، وقوة الشَّغف الذاتي، والحصول على الإلهام، وفي النهاية الحظّ البحت، كلُّها عوامل تؤثر على تحقيق النجاح في أيِّ مجالٍ من المجالات.
يظهر الرسم البياني أدناه العلاقة بين الموهبة والعمل الشاق في الأداء وفق دراسة ديفيد هامبرك. حسبما يُبيِّن الخط الأزرق الصاعد، يُمكن لبعض الأشخاص ودون أي تدريب مُسبَق أن يظهروا أداءً ممتازاً في بعض المجالات، اعتماداً على موهبتهم الطبيعية وحدها. من جهة أخرى، يدلُّ الرسم على أن من يبذل جهداً كبيراً لاكتساب مهارة من المهارات، يُمكنه الوصول إلى مستوى أداء ممتازٍ فيها بمُجرَّد التدريب المستمر. ذلك يُمكن أن يعني أن العمل الشاق، حتى لو لم يكن كافياً لتحقيق نجاح باهر في مجال ما أو جعلك واحداً من أفضل الأشخاص فيه، إلا أنَّه قادر على رفع مستوى أدائك بدرجة كبيرة جداً، ومن الواضح – على الأقل – من الرسم البياني أنَّه عندما يخضع الجميع للتدريب الطويل والمُكثَّف، فإنَّ الفارق بين أصحاب الموهبة الطبيعية ومن يفتقرون إليها، يتقلَّص كثيراً. فمع أنَّ الشخص الذي يفتقر للموهبة لكنه يتدرب لسنوات على العزف على الناي مثلاً، قد لا يستطيع – طوال حياته – الانضمام إلى فرقة أوركسترا عالمية، إلا أنَّه قد يُصبح عازفاً جيداً تماماً، وقد يتمكَّن من عرض موهبته في مسارح صغيرة كثيرة وأن يكتسب شهرة محلية جيِّدة.
نشر الصحفي والكاتب الأمريكي ديفيد إبستين في سنة 2013 كتاباً بعُنوان The Sports Gene انتقدَ فيه قاعدة العشرة آلاف ساعة، وكذلك أبحاث أندريس إريكسون في مجال الخبرة. يسير الكتاب على نفس نهج Outliers الصَّادر قبله بخمس سنوات، حيث يستعرض قصَص حالات نجاح مشهورة واحدة تلو الأخرى ليُدعِّم استنتاجاته، لكن في هذه المرة وعوضاً عن تناول قصص أشخاصٍ قضوا سنوات طويلة في التدريب، يتحدث إبستين عن رياضيِّين تمكنوا من تحقيق نتائج مُبهرة في بعض المنافسات دون أي تدريب مُسبَق يذكر. مع أنَّ إبستين يُقدِّم وجهة نظر مُتطرِّفة قليلاً اتجاه الموهبة في كتابه، إلا أنَّ طرحه – عند التغاضي عن تلك المبالغة – متوافق إجمالاً مع التوجُّه الحديث في الأبحاث العلميَّة نحو اكتساب الخبرة، والتي لم تعد ترى الممارسة المُكثَّفة العامل الأساسي الوحيد في تطوير المهارة.
ما هي النتيجة؟
في الوقت الحالي، لم يَعد ثمَّة قبولٌ كبير في المجتمع العلمي لفكرة قاعدة العشرة آلاف ساعة، فعوضاً عن اعتبارها “قاعدة” مُطلقة أو ذات أهمية جوهرية، أصبحت تعامَل وكأنها محض “مُعدَّل”. فمثلاً، إذا أحضرتَ مجموعة عشوائية من الناس، وطلبتَ منهم التدرب على مهارة مُعيَّنة، كالعزف على البيانو، يمكننا توقُّع أن المعدل الوسطيَّ – إحصائياً – للوقت الذي سيحتاجونه لاحتراف العزف سيكون نحو 10,000 ساعة من التدريب، إلا أنَّ هذا الرقم (ورغم كونه وسطياً) لن ينطبق إلا على عيِّنة محدودة من الناس، وقد لا يعني أيَّ شيءٍ بالنسبة للكثير منهم، حيث يُمكن أن يستطيعوا إتقان العزف في وقتٍ أقصر بكثير، أو قد لا يتمكنون من إتقانه أبداً، وقد اعترف بذلك أندريس إريكسون نفسه في بحث حديث له، قائلاً أنَّه: «ما من شيء مُميَّز بالحقيقة في رقم العشرة آلاف ساعة بالذات». فالحقيقة المؤسفة، كما وصفها عالم النفس ستيفن بانكر، هي: «فكرة أن جميع الناس يُولدون متساوين في قدراتهم، قد اندثرت منذ زمنٍ بعيد»، وحتى لو تدرَّب الجميع بنفس المقدار وبالجُهد ذاته، فسينتهون بقدراتٍ مختلفة جذرياً.
إذاً ما الذي يؤثر على اكتساب الناس للمهارة أيضاً؟ على أرض الواقع، لا أحد يعرف تماماً. ممَّا لا شك فيه أنَّ ما يُسمِّيه الناس “الموهبة” أو “الجينات” عاملٌ جوهريٌّ في النجاح والإبداع، لكن فهم العلم للموهبة لا زال محدوداً جداً. يُعرِّف بعض الباحثين الموهبة بأنَّها «مجموعة من الصفات الشخصيَّة التي تساعدنا على إتقان مهارة ما بطريقة أفضل من باقي الناس»، لكن عدد هذه الصفات كبير جداً، وطريقة تفاعلها مع بعضها مُعقَّدة بدرجة كبيرة، بحيث لا يُمكن بحثها وتقصيها على حدا في دراسة علميَّة. فما يُهم ليس الصفات الفرديَّة التي تصنع الموهبة، كالذاكرة القوية أو البديهة السَّريعة أو الاستيعاب الجيِّد، وإنَّما الناتج النهائي عن تفاعل كل هذه الصفات مع بعضها لدى شخصٍ مُعيَّن. ففي الكثير من الحالات على سبيل المثال، يُمكن لهذه الصفات الفرديَّة أن لا تتطوَّر عند الشخص الواحد بالتوازي مع بعضها، فقد يمتلك أحدهم قدرات خطابيَّة ممتازة، لكن طبيعته الخجولة أو غير الاجتماعية ستمنعه من مشاركتها مع الآخرين، وبالتالي قد لا تبرز موهبته حتى مرحلةٍ متأخرة من حياته. في مثل هذه الحالة، قد يبدو أنَّ الموهبة لم تكن موجودة أصلاً لدى ذلك الشخص من قبل، لكنَّها في الواقع كانت تحتاج أن تنضج فقط، باكتمال إتقانه للصفات الفرديَّة التي يتطلَّبها تكوين الموهبة.
من جهةٍ أخرى، وحتى بعد الاعتراف بالدور الجوهريّ للموهبة في اكتساب المهارات، فذلك لا يعني أنَّ مصدر الموهبة هو – ببساطة – مُجرَّد الجينات التي نرثها عن آبائنا. في الحقيقة، اختلفت النظرة العلميَّة حول أثر الجينات على تطور قدراتنا بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت تميل إلى أنَّ الجينات ليست شيئاً حاسماً أو ثابتاً، وإنَّما هي عُرضة للتغير والتطور استجابة للظروف التي نمرُّ بها. يقول عالم الأحياء في جامعة كامبردج باترك بيتسون محاولاً وصف ذلك: «يبدأ الإنسان حياته مع استعداديَّة في جيناته للتطور في اتجاهاتٍ كثيرة مُختلفة، والذي يُقرِّر أي واحد من هذه الاتجاهات سيسلك فيما بعد، هو البيئة التي تُحيط به.. والطريقة التي تؤثر بها عليه». لم تأتي وجهة النظر هذه من مناقشات نظريَّة بحتة، بل بسبب مجموعة متنوِّعة من التجارب العلمية التي أجريت مُنذ خمسينيات القرن المنصرم. فقد أظهرت واحدة من هذه التجارب، وقد نشرت سنة 1958، أنَّ الفئران المنحدرة من سلالات جينيَّة شديدة الذكاء، يُمكن أن تظهر مستوى عادياً تماماً منه (بالنسبة للفئران الأخرى) عندما توضع في بيئات مُعيَّنة. لا بُدَّ وأن الجينات تؤدي دوراً ذا أهمية كبيرة في اكتساب الخبرات والمهارات، لكنَّها هي أيضاً محض جزء من عمليَّة مُعقَّدة تجتمع فيها عوامل كثيرة، ويُمكن النظر إليها كمحض صفة بشريَّة أخرى لها القدرة على التغير مع مرور الزمن.
على أيِّ حال، ليس من الصَّحيح النظر إلى الموهبة والممارسة على أنَّهما مفهومان متعارضان، فهُما – على العكس تماماً – مُكمِّلان لبعضهما بعضاً، وليست ثمَّة قيمة تذكر لأحدهما دون الآخر. ومع أنَّ نسبة تأثير كل منهما على مهارات الناس قد تختلف، وقد تتغيَّر وجهة نظر العلم حولها باستمرارٍ على مرِّ السنوات القادمة، إلا أنَّ الواضح أن كلاهما يؤدي دوراً مهماً في العملية. إنَّ إتقان البشر لمهارة ما يتطلَّب اجتماع عوامل كثيرة جداً، فحتى عند توفر الموهبة العالية والتدريب الجيِّد، يُمكن للافتقار إلى الحافز والرَّغبة الحقيقيَّة بالتعلُّم أن يكون كفيلاً بتدمير مُعظم الآثار الإيجابية للعاملين السَّابقين، وفي مُعظم الحالات، قد يكون انعدام الدعم النفسي من المُجتمع والتشجيع من الأصدقاء سبباً كافياً لمنع أي موهبة من الازدهار.
البشر لا يولدون بقدراتٍ متساوية، لكنهم ليسوا محكومين بما يولدون عليه، فكل شخصٍ له إمكانات خاصَّة به، وفرصة لتطوير قدرات جديدة بعمله الشاق. مع أنَّ الجينات الموروثة والموهبة الفطرية قد يؤثران بدرجةٍ عالية على فرص الناس في الحياة، إلا أنَّهما ليسا قادرين على تقرير مصير أي شخص. وفي النهاية، مثلما أن الأشخاص الذين ينعمون بمواهب استثنائية نادرون جداً في عالمنا، فإنَّ من لديهم الاستعداد لإفناء ساعات وسنوات طويلة بالعمل الشاق وبناء المهارة من العدم هم أيضاً نادرون للغاية، ولهُم مكانهم المُميَّز في هذا العالم بدورهم. قد لا يولد جميع الناس والطريق السَّهل للنجاح متاح أمامهم، لكن لا أحد تقريباً يُولد هكذا، فكلُّ من حقَّقوا إنجازات كبيرة في تاريخ البشرية، لم يصلوا إليها إلا بجُهدٍ عظيم.